بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 مارس 2014

القيصرية شرشال بين البحر والطبيعة والآثار ثلاثية جمالية رسمت لوحة فنية لا تقدر بثمن


روبورتاج: اسماعيل قاسمي




مدينة يحب الناس العيش بها منذ القدم، يحبها الناس لموقعها ولتوفر ظروف الحياة كاملة بها، توفر الماء والأراضي للزراعة ووجود البحر للصيد وتواجد السكان بها منذ قدم التاريخ، كما يحب الضيوف زيارتها والتمتع بمناظرها، بطبيعتها، بشواطئها، بمينائها، بأزقتها ومعالمها الأثرية، وأكثر من كل ذلك لكرم أهلها وترحيبهم وانفتاحهم على الآخر، بدورنا أحببنا شرشال فكانت لنا زيارة لها.
وصلنا رحلتنا إلى المدينة التي تبعد جغرافيا 90 كلم عن العاصمة و30 كلم عن مقر ولاية تيبازة، تاريخيا هي أيول، القيصرية، شرشال، مدينة يوبا الثاني وعاصمة موريتانيا القيصرية، ذات تاريخ عريق وإرث عظيم، لها موقع جميل وبها جمال يوقع القلوب، بين منعرجات الجبال وأمواج البحر تنحني على ميناء للصيد وتعانق شواطئ في شرقها وأخرى في غربها، شواطئ رملية وأخرى صخرية تتسم كلها بالعذرية الطبيعية، لتكون الرحلة إلى شرشال رحلة تأمل في التاريخ والطبيعة وسهرة عشق للثقافة والفن في ساحتها الرومانية.

من تاريخ المدينة
تدل معالم مدينة شرشال على أنها خضعت للعديد من الإمبراطوريات وأنظمة الحكم المختلفة، فكانت في بادئ الأمر مدينة فينيقية تسمى بـ”أيول” وازدهرت في عهد القرطاجيين، بينما يعتقد الكثير من العلماء أن شرشال كانت مستعمرة مصرية في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد (1500 ق.م) أي ربما قبل العهد الفينيقي وذلك يعود لاكتشاف تمثال مصري في شرشال عليه خرطوشة الفرعون “تحتمس الأول” (1493-1482ق.م) وهو تمثال منحوت من البازلت الأسود وجلسته جلسة الألوهية مصرية، وهو موجود اليوم في متحف المدينة.
أصبحت المدينة واحدة من مدن المملكة النوميدية فخضعت لحكم سيفاكس ثم ماسينيسا وبعد انتصار الرومان على مملكة نوميديا عام 105 ق.م استولى عليها الرومان، وفي عهد الملك يوبا الثاني جعل من شرشال عاصمة لموريتانيا القيصرية، وتحول اسمها من إيول إلى “قيصرية” تكريما للإمبراطور الروماني أغسطس قيصر(31 ق.م – 14م)، وقد جعل يوبا الثاني من عاصمته “قيصرية” مركزا للثقافة اليونانية-الرومانية، وفي عهد الإمبراطور الروماني كاليجولا فقدت مدينة قيصرية استقلالها وألحقت بروما وسميت (كولونيا كلاوديا سيزاريا)، ورغم ذلك لم تفقد قيصرية مركزها التجاري لأنها أصبحت عاصمة للولاية الرومانية الجديدة التي شملت ثلثي الشمال الجزائري .
شهد دخول الوندال عام 372م تدميرهم للمدينة تدميرا لحق بكل المدن التي وصلوا إليها، ثم خضعت المدينة للبيزنطيين منذ عام 534م هي وتيباسا المجاورة وقد حاولوا أن يعيدوا لها شيئا من أهميتها السابقة في إطار ما كانت تريده الإمبراطورية لستعادة مجد روما، لكن شرشال رجعت بعد ذلك إلى الانحدار حتى اختفت من الذاكرة، وبعد الفتح العربي الإسلامي لشمال أفريقيا سميت المدينة بشرشال.

المعالم الباقية شاهدة على عاصمة موريتانيا القيصرية
  
لقد أقام الرومان حول ميناء مدينة شرشال حصنا منيعا يمتد على مئات الأمتار وأطلق الرومان اسم (القيصرية) وهو الاسم القديم للمدينة لتصبح تحفة عمرانية ومدينة للفن ومركز للحضارة الإغريقية الرومانية وهذا ما جعل من القيصرية إحدى كبريات المدن في الضفة الغربية لحوض البحر الأبيض المتوسط .
سميت شرشال بالمتحف المفتوح باعتبارها تحتوى على آثار تعود إلى أكثر من خمسة عشر قرنا ولا تزال إلى يومنا هذا شاهدة على تلك الحقبة التاريخية، ويرى الزائر للمدينة متحفها الأثري المفتوح الواقع وسط غابة من الأشجار والحجارة الضخمة التي تعود إلى عهد الرومان، وحسب اللوح المثبت على جدار المدخل فإنه يطلب من الزوار الهدوء وعدم لمس الآثار أو تقليب الحجارة و توجد أيضا خريطة للموقع الأثري والمتكون من عدة مسارح وساحات تحتوى على غرف مبلطة ومزينة بالفسيفساء والأسوار والأعمدة، ومن الأشياء المميزة للمواقع الأثرية بشرشال هو وجود اللوحات والعلامات الدالة على المكان والمعالم الموجودة به.
من معالم شرشال الأثرية الرومانية نجد المسرح بمركز المدينة وهو من أهم المعالم التي لا تزال صامدة وشاهدة على القيصرية، كذلك بالقرب منه الفوروم الذي اكتشفت معالمه في 1978، أما المدرج الخاص بالسباقات والمعارك والذي كانت تقام به معارك الأسود فيوجد شرق المدينة والسيرك أيضا إلا أنه مهدم قليلا، وعن الحمامات التي اشتهر بها الرومان أيضا فهي تتواجد في الناحية الغربية على وجه الخصوص، ومعروف ضمن معالم شرشال الحمامات الغربية الثلاث، واحد منها موجود قرب باب تنس لا يزال يحافظ على نمطه وطريقة بنائه بالرخام والفسيفساء، وفي الجهة الغربية دائما نجد آثار قليلة جدا تعود للمعبد الموجود بحي قايد يوسف.

شاطئ الصخرة البيضاء .. مغامرات الشباب المجنونة
بعد تجول طفيف في نهار شرشال عبر أزقتها الموريسكية المبنية بعد الهجرات الكبيرة للأندلسيين المهاجرين منذ سقوط مملكة غرناطة التي كان يحكمها المغاربة في يد “فردناند” و “إيزابيلا” عام 1492، إلى غاية طردهم ما بين عامي 1609 و1910 من قبل الملك الإسباني فيليب الثالث، حيث استوطنوا شمال إفريقية من مدن مغربية وجزائرية وتونسية ساحلية كانت بينها مدينة شرشال. كانت رحلتنا إلى أحد الشواطئ القريبة من مدينة شرشال على أمل العودة إلى ديارهم الأندلس، إنه شاطئ الصخرة البيضاء الذي يبعد عن المدينة بـ 03 كلم وهو يوجد بقلب جبل الحمدانية بين شاطئي واد البلاع والجزيرات الثلاث كما يعرف لدى الناس.
رغم أن هذا الشاطئ ممنوع من السباحة من طرف السلطات الولائية ويوجد بمنطقة غابية وعرة المسالك، إلا أن المخيمين فيه بطريقة فوضوية كثر عددهم إلى درجة كبيرة، وهم جميعا من الشباب ولا توجد بينهم العائلات، يأتون خصيصا من الولايات القريبة كالبليدة، تيبازة، عين الدفلى، الشلف، العاصمة وبعض الولايات الأخرى بصفة قليلة للتخييم وسط الغابات الخضراء.
الشباب هنا أعجبتهم الصخور الكلسية شديدة الارتفاع، فتراهم يغامرون بالقفز من عليها وحتى تسلقها بطريقة تدهش الغريب عن هذا المكان وتقشعر لها أبدان من لا يستطيعون النظر إلى طرق القفز من على صخور يتجاوز ارتفاعها 10 أمترا وتصل إلى 20 مترا، وهو شيء عادي بالنسبة إلى محبي هذه المغامرة.

زوار جزائريون، وفود إفريقية وسياح أوربيون وصينيون
أثناء زيارتنا لاحظنا ما تلاقيه القيصرية شرشال يوميا من توافد وإقبال كبيرين من طرف الأسر من شتى الولايات وخصوصا أيام نهاية الأسبوع، وعلى حد تعبير أحدهم فأنه يفضل زيارة المدينة من إحدى الولايات الداخلية ليقضي نهاية أسبوع جميلة رفقة عائلته بعد أسبوع مليء بالعمل المرهق. فيما أبدى بعض الشباب المخيمين بواد البلاع أيضا حبهم للمدينة، حيث يرتادون في النهار شواطئ واد البلاع والصخر الأبيض وغابات الحمدانية، وفي الليل يتمتعون بجو المدينة وسهراتها التي لا تنتهي.
ومن جهة أخرى، فقد شاءت الصدفة برحلتنا أن نلتقي بالعديد من السياح القادمين في إطار الوفود الإفريقية المشاركة في المهرجان الثقافي الذي أقيم بالجزائر، وقد أبدت إعجابها بتراث المدينة الثقافي والحضاري وخاصة بالآثار الرومانية والمتحف، كما لاحظنا استمتاعها الشديد عند زيارة ميناء شرشال ومشاهدة منارته المصنفة تراثا وطنيا، كما أن تلك الوفود كانت تمر علينا بين كل لحظة وأخرى في الحافلات المخصصة لها والقادمة من العاصمة خصيصا لإجراء زيارات سياحية أو لإقامة حفلات وعروض بالساحة الرومانية لشرشال بما أنها كانت إحدى الساحات الحاضنة لعروض المهرجان.
وحسب مسئولة المواقع الأثرية فإن السياح وخصوصا الصينيين واليابانيين والفرنسيين تستهويهم الأقواس الرومانية حيث يجدون فيها منظرا جميلا للالتقاط الصور التذكارية بالقيصرية الرومانية خصوصا أن السياح الأوروبيين يحنون لتلك الحضارة، ويجدون في كل زاوية من زوايا المكان حكاية من حكايات الرومان وكل صخرة تسرد نمط من أنماط معيشتهم. كما أن السياح من الصينيين واليابانيين ومن شرق آسيا أصبحوا زبونا سياحيا رئيسيا يزور مناطق الجزائر المختلفة.
وعلاوة على الفرجة التي يريد هؤلاء الاستمتاع بها وتخليدها في ذكريات، فقد انتهز بعض الشباب الفرصة ليسترزقوا من المكان الأثري سواء بامتهان التصوير الآني من طرف بعض هواة فن التصوير أو بعرض بعض المبيعات التقليدية كالفخار والألبسة التقليدية الجزائرية والورود.

كليوباترا مصرية زوجة ملك بربري جزائري

نختم زيارتنا و”تحويستنا” هذه بقصة يوبا وسيلينا الذين جمعت بينهما كأسيرين قبل أن يعودا إلى مكانتهما ويصبحا ملكين، حيث ظهرت بعد يوبا مملكة نوميدية فأخذ كأسير إلى روما عند جوليو سيزار، وفي نفس الوقت كانت كليوباترا السابعة ملكة مصر قد انتحرت بعد وفاة زوجه من شدة حبها له، فأسرت ابنتها سيلينا عند الرومان أين تعرفت بيوبا الأول فكانا أسيرين لدى الرومان وعاشقين أسيرين لدى بعضهما، ولما كان البربري النوميدي جنديا مولعا بالثقافة الإغريقية ورجلا شهما وذو همة عالية، فقد بعث به جوليو سيزار إلى “أيول” لتصبح قيصرية عاصمة المملكة النوميدية من المغرب إلى حدود تونس، وهنا هبت رياح السعادة والمجد على سيلينا وزوجها  الملك  يوبا وأرادت لها الأقدار أن تسترجع الملك والتاج ولكن في أرض الجزائر التي عاشت فيها حتى آخر أيامها، ويقال أنها ترقد اليوم بالضريح الملكي الموريتاني بعدما شيده لها زوجها العاشق بمنتهى التألق والفخامة، ويعرف الضريح بقبر الرومية إلا أن الحقيقة تقول أن سيلينا لم تكن تدين بالمسيحية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق