بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 29 ديسمبر 2014

الجزائري كمال رزوق 'مُنشد الشارقة'


 
تُوّج الجزائري كمال رزوق بلقب أفضل منشد ضمن النسخة السابعة من مسابقة "مُنشد الشارقة".
وللسنة الثانية على التوالي، اقتنص الجزائر لقب "مُنشد الشارقة" حيث توج في نسخة السنة الماضية عبدالحميد بن سيراج.
وحصل صاحب المركز الأول على شيك بقيمة 150 ألف درهم إماراتي، وسيارة "BMW" وعمرة للبقاع المقدسة، وإنتاج ألبوم إنشادي.
وكمال رزوق، من مواليد 1991 بمدينة واد سوف، وكانت تجربته الأولى في مسابقة برنامج "صوتك واصل" الذي يبث على قناة "فور شباب" المصرية، ومن أهم إصداراته فيديو كليب بعنوان "اللهم صلي"، بالإضافة لمجموعة من الأناشيد أشهرها أنشودة "بلادي والله جنة".
وشهدت السهرة الرابعة والختامية من البرنامج تنافساً شديداً بين 6 متسابقين وصلوا للنهائيات من بين 14 متسابقا، وقدموا فقرات إنشادية أمام أكثر من 3300 شخص، إذ أنشد السعودي عبدالرحمن الصيعري "يا من يرى"، فيما أنشد الأردني أحمد أبوحطب "غرد يا طير".
وقدم المغربي أنس براق "قل لمن يفهم عني"، التي أثرت في أعضاء لجنة التحكيم مشيدين بجمال أدائه، وأنشد الجزائري كمال رزوق "بذكر محمد"، التي ارتفعت معها أعلام الجزائر، فيما قدم السوري معن برغوث "انت الذي شرفنا"، وأشادت لجنة التحكيم بروعة أدائه فيها، ليختتم العماني محمد الوهيبي المنافسة بأنشودة "مولانا".
وكان تلفزيون الشارقة التابع لمؤسسة الشارقة للإعلام أطلق فعاليات برنامج منشد الشارقة في دورته السابعة وهو أحد أشهر البرامج التلفزيونية المحلية والإقليمية المتخصصة بالإنشاد الفني الهادف.
واتجه فريق عمل البرنامج إلى تسع دول مختلفة لاختيار المنشدين، شملت كلاً من: السعودية، والجزائر، والمغرب، ومصر، والأردن، وماليزيا، والبوسنة والهرسك، وتشاد، إضافة إلى الإمارات.
واعتبر مدير الإذاعة والتلفزيون بمؤسسة الشارقة للإعلام محمد ان البرنامج يواكب المكانة الثقافية والفنية للشارقة، كونها عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2014.

وأضاف: "حرصاً على تعزيز حضور الكلمة واللحن الهادف والمعبر المنسجم مع قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا المعروفة، وبعد أن حقق منشد الشارقة نجاحات رائعة في فضاءات الفن الإنشادي الهادف خلال ست دورات سابقة، عاد بحُلة جديدة".

الأحد، 28 ديسمبر 2014

جذور صناعة الحليّ الفضية في بني يَنِّي في جبال جرجرة


حرفي جزائري في بداية القرن العشرين

"....الصنائع والحِرف البجائية لم تَتَخَلَّف عن مواكبة التقنيات والنماذج والموضات الإيبيرية حيث لم تكن توجد تباينات تقريبا في أساليب عمل الصّيَّاغِين والخَرَّازِين والنَّحَّاسِين والدَّبَّاغين والقَزَّازين والنَّسَّاجين والعَطَّارِين والمَقْفُولْجِيِّين وغيرهم من الحِرفيين البِجائيين من جهة ونُظرائهم في المُدن والحواضر الأندلسية من جهة أخرى. ومن بجاية انتشرتْ هذه التقنيات والصَّنائع الإيبيرية كبقعة الزيت في كامل المدن والأرياف الجزائرية القريبة؛ من مَجَّانة وسْطِيفْ وبُرْج بُوعْرِيرِيجْ وقلعة بني عبَّاس إلى مختلف قرى جبال جَرْجْرَة. أما قلعة بني حمَّاد فقد انهارتْ، حسب البحوث التاريخية والحفريات الأثرية، قبل أن تصلها العديد من الإبداعات الأندلسية الحديثة، بمقاييس ذلك العهد، التي شهدتها بجاية...
فصناعة الحليّ والمجوهرات الفضية، على سبيل المثال، المتميِّزة والشهيرة في بلدة بني يَنِّي في مرتفعات جرجرة التي يُعتقَد أنها صناعة أمازيغية خالصة ليست في واقع الأمر سوى إحدى تلك الحِرَف والصنائع الأندلسية التي انتهى بها المطاف في المنطقة مُنْتَقِلَةً إليها من بجاية.
وهذا ما تؤكده البحوث والدراسات الحديثة المتخصصة التي من بينها أعمال أنجزتْها الخبيرة الفرنسية في الأنثروبولوجيا كَامْبْسْ – فابْرر هُنرِيَّات (Camps – Fabrer Henriette) والباحث لُوسْيان غُولْفِين (Golvin Lucien)، وقبلهما المستشرقان الفرنسيان جورج مارْصِي (Georges Marcais) وبُول أُودِيلْ (Paul Eudèl) في نهاية القرن 19م وبدايات القرن 20م...
فهؤلاء يتفقون على الأقل على أن تِقنيةَ طَلاَء المجوهرات الفضية المرصَّعة بالأحجار الكريمة في بني يَنِّي بمادة المينا (Les bijoux émaillés filigranés) التي تُزيِّن الحِلية وتجعلها تلمع وتحفظها من التأثيرات السلبية للرطوبة والهواء والألوان البرَّاقة، على حد قول هنريات كامبس فابرر، عِلمًا أنها رأسمال صناعة الحلي في بني يَنِّي وعمادُها، هذه التقنية غريبةٌ عن جبال جرجرة في شمال شرق الجزائر وعن كل الأرياف المغاربية، وإنما هي تقنية حَضَرية جاءتْها من الأندلس التي برزتْ فيها هذه الطريقة في صناعة الحليّ منذ القرن 12م وتَرَسَّخَتْ وشاعتْ ابتداءً من القرن 13م منذ عهد مُلك بني الأحمر لغرناطة، وازدهرت بعد هذه الفترة إلى غاية سقوط هذه المملكة عام 1492م .
وبعد انتشار هذه التقنية الأندلسية في المدن الجزائرية، من بينها بجاية، تَبَنَّتْهَا بعضُ الأرياف القريبة من الحواضر قبل أن يتم التخلي عنها تدريجيا في المدن بظهور إبداعات جديدة، فيما سَمَحَ عدمُ الاحتكاك الكافي بالابتكارات الحديثة للأرياف النائية، المعزولة نسبيا بتضاريسها الوعرة، باستمرار وجود هذا الفن الحِرفي لديها وتعميره إلى اليوم في غياب البدائل، مثلما هو الشأن في بني يَنِّي الجزائرية ومُقْنِينْ وجَرْبَة التونيسيتيْن وتِنْزِيتْ وتَارُودَانْتْ في المملكة المغربية...
وبَقَيَتْ هذه الأرياف النائية تُكَرِّرُ إلى اليوم التقنيةَ ذاتها منذ مئات السنين بعدما اندثرت واختفتْ في غيرها من القرى، وأيضا في الحواضر التي تَبَنّتْ ابتكاراتٌ وأساليب جديدة.
هذا ما يعتقده الباحثون الخبراء في ظل ما تَوَفَّرَ من القرائن الأنثروبولوجية والدلائل الأثرية المُتاحة إلى حَدِّ اليوم، لكن دون الحَسْم بشكل قاطع ونهائي في هذه المسألة لعل اكتشافات أثرية جديدة قد تطرأ في المستقبل وتوفر إيضاحات إضافية.
هذه المجموعة من الباحثين الفرنسيين، وهي من أبرز وأهم الخبراء في هذا المجال الأنثروبولوجي من الدراسات حول التراث الاجتماعي/الثقافي الأمازيغي، تُجمِع على أن تقنيةَ استخدام مادة المينا (émail en filigrane) انتقلتْ إلى بني يَنِّي عن طريق أندلسيِّي بجاية المسلمين. ولو أن بضعةَ أصوات في وسط الخُبراء بدأتْ تنسبها منذ بضعة عقود إلى يهود الأندلس فقط، دون أن تنجح في إحداث الإجماع حول هذه النظرية التي يوجد مَن يستبعدُها أكثر مِمَّنْ يتبناها ، فَضْلاً عن أن الحكايات المُتوَارَثَة في جرجرة عبْر الأجيال في شَكلٍ أشْبَه بالأساطير العتيقة عن دخول صناعة هذا النوع من الحليّ، بل وكل الحليّ، إلى بني يَنِّي لا تتحدث عن أيَّة رِيَادَةٍ لليهود في المنطقة لا قديما ولا حديثا.
بل هي تُرجع الفضلَ إلى عائلةِ من قلعة بني عباس القريبة من بجاية، وعميقةِ التأثر بفنونها وصنائعها الأندلسيةِ القلب والقالب، في تعليم المنطقة أسرار هذه الحرفة الأندلسية العتيقة بعد أن جيء بها كأسيرة إلى بني يَنِّي إثْرَ مَعارك في بداية القرن 16م في إطارِ صِراعٍ عسكري/سياسي بين المنطقتيْن، بني يَنِّي المُوالية لابن القاضي سلطان كُوكُو وحليف العثمانيين من جهة وقلعة بني عبَّاس حامِية السُّلطان عبد العزيز من جهة أخرى، على خلفية بسط النفوذ العثماني على المنطقة.
هذه العائلة الأسيرة التي اشتهَرتْ بنبوغها في صناعة الحليّ والمجوهرات والسلاح تَحوَّلتْ إلى نوَاة قرية "آيَتْ الأَرْبْعَاء" (أيْ بَنِي الأربعاء) التي سَكنتْ لاحقا أرضًا وَفَّرَتْها لها أسرةُ آيَتْ مْعَمَّرْ (أيْ بني مْعمَّرْ) واستفادتْ منها في المنافسة مع قبيلة آيتْ مَنْقَلاَّتْ المُحاذية. وفي هذه الفترة، ظَهرتْ لأول مرة في المنطقة الحلْيَة الشهيرة بـ: "تَبْزِيمْتْ" المعروفة إلى اليوم، التي تُزَيِّنُ بها النساء المحليات جِبَاهِهن، والتي كانت صناعة مُحتكَرة تقريبا من طرف بني عباس حسب الفرنسي بُولْ أُودِيلْ الذي تحادث في نهاية القرن 19م مع أهل بني ينِّي بهذا الشأن ...
عندما سَأل الكاتب بول أوديل في نهاية القرن 19م شيخا طاعنا في السِّن من سُكان بني يَنِّي كان قد بلغ الـ: 100 عام من العُمر: مَتَى بدأ سكانُ منطقتِه يستخدمون مادة المينا في الحليّ؟ رَدَّ عليه الشيخُ بأن هذا الأمرَ يعود إلى أكثر من 500 عام. وهو ما يتوافق نسبيا مع الفترة التي تَذْكُرُهَا الروايات الشعبية فيي المنطقة .
كما يُلاحَظ أن "تَبْزِيمْتْ" وأدوات مُحترِفي صناعة الحليّ في بني يَنِّي تَحمِل في مُجملها أسماء عربية مُكيَّفة شكليًّا مع الأمازيغية، مما يُغري لأول وهلة بالاعتقاد أنها ليستْ أصيلة في المنطقة بل نابعة من ثقافة عربية اللسان بالدرجة الأولى التي نعتقد أنها الثقافة الأندلسية مصدر تقنية صناعة حليّ بني ينِّي الفضية.
ومن بين هذه الأدوات: تَرَبُوزْتْ المُشتقَّة من الرَّبز، مُحَبّسْ المأخوذة من الحَبْس، تَبَلْقُورِينْتْ المُكيَّفة من أبو القرنيْن أو "بو القُرِين" العامِّية حسب الكاتب الفرنسي بول أوديل، تَمُقَصْ المشتقة من المِقَصّ، القالب، الفُرْن، الطَّابع، المبْرد، أجَعْبُوبْ وهي من الجُعْبُوب، السّْكَيْنْ وهو تحريف طفيف لـ: السِّكِّين...إلخ .
أما تَبْزِيمْتْ فمصدرها كلمة الإبْزِيم العربية التي يقول "المعجم الوسيط" إنها "عُرْوَةٌ مَعْدِنِيَّةٌ في أحد طرَفيْها لسان، تُوصَل بالحِزام ونحوه لتَثْبيت طرف الحزام الآخر على الوسط"...".
المصدر: فوزي سعد الله: الشتات الأندلسي في الجزائر والمنطقة العربية والمتوسطية.

السبت، 27 ديسمبر 2014

الآذان على الطريقة الجزائرية


   

"....في مدينة الجزائر، كان الآذان يتم وفق أسلوب الغناء الأندلسي المحلي المعروف بـ: "الصنعة" ومقاماته الموسيقية، واستلهمت قسنطينة آذانها من موسيقى "المالوف"، وتلمسان من الغناء "الغرناطي".
وكان الآذان يتم حسب النوبة، أو المقام، الذي يتوافق مع مزاج المؤذن وميوله الشخصية، إذ بإمكانه أن يتمَّ على نوبة رمل الماية أو نوبة الزيدان أو نوبة المَزْمُوم وغيرها، وإن طغت نوبة الزيدان ورمل الماية أكثر من غيرها من النوبات على آذان مدينة الجزائر والمدن المتوسطة والصغيرة التي تدور في فلكها الثقافي على غرار البليدة والقليعة وشرشال. كما يجوز للمؤذن أن ينتقل من نوبة إلى أخرى على هواه من آذان إلى آخر بين صلاة الفجر وصلاة العشاء.
وكان آذان البدء في الصلاة يتم تقريبا على نفس النحو مع بعض التباينات الطفيفة. لكن العادات كانت تقتضي أن تكون النوبة التي يُعلن بواسطتها إقامة الصلاة هي نفسها التي تُعتمد في تلاوة القرآن أوتجويده أثناء الصلاة.
أما آذان صلاة العيد وتكبيرة العيد، "الله أكبر، الله أكبر، والحمدلله ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر"، فكان أداؤهما يتم وفق نوبة السيكة القريبة جدا من موسيقى الفلامينكو الإسباني.
ويتردد في الأوساط الحضرية لمدينة الجزائر أن أول مَن وضع ألحان هذه التكبيرة التي أصبحتْ تقليدا وطنيا في الجزائر هو المفتي الحنفي التركي أبو الحسن العتري أو العنتري قبل نحو 5 قرون.
في مدينة الجزائر، على سبيل المثال، خلال العقود الأولى من القرن 20م، كان من بين أجمل الأصوات التي برعتْ في الآذان وما زال صداها يتردد إلى اليوم وذكراها حية في الأذهان أصوات كلٍّ من محيي الدين باش طارزي، والصحفي الرسَّام عُمَر رَاسِم الجزائري، والشيخ بن النُّوبِيَة، والشيخ المفتي باباعمرو، والشيخ مَامَادْ البستانجي (يُنطق: بَسْطَانْجِي في الجزائر) الذي كان في فترة معينة رئيسا لجمعية الجزائرية – الموصلية للغناء والطرب الأندلسي. دون أن يفوتنا ذِكر الشيخ البُلَيْدِي، والشيخ أحمد ابن يوسف، والشيخ بَكِيرْ المَسكْجِي، والفنان الشيخ أحمد سري في النصف الثاني من القرن ذاته...إلخ.
ومع رحيل أغلب رجال هذه الأجيال، لم يبق من الذين يتقنون فن الآذان الجزائري سوى قلة قليلة تُعَدُّ على الأصابع، فيما اكتسحت الأساليب المشرقية والحجازية الخاضعة للقواعد الموسيقية المحلية المساجد والجوامع الجزائرية بسبب شبه القَدَاسَة التي يتمتع بها كلُّ ما جاء من الشرق في المجال الرُّوحي في الجزائر، لأن هذا الشرقَ كان مصدرَ رسالة الإسلام قبل 15 قرنا وما زالت مكانته الروحية في القلوب هي هي لم تتأثر بكوارث الأمور الدنيوية..."...
المصدر: فوزي سعد الله: صفحات مجهولة من تاريخ الغناء الأندلسي في الحزائر. دار قرطبة. الجزائر 2011م.

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

الإنجليز في مدينة الجزائر: مواسم عشق القصور و..الياسمين





بقلم: فوزي سعد الله
مِنْ هؤلاء الإنجليز الذين فتنتهم مدينة الجزائر قبل أكثر من قرن، لم يبق الآن سوى بعض المعالم المعمارية..، لعل أهمها يتمثل في الكنيسة الأنجليكانية الواقعة بمفترق طرق أديس أبابا والتابعة حاليا لمصالح السفارة البريطانية...
*********************************
منذ أن شق المصريون بمساعدة المهندس الفرنسي فرديناند دو ليسيبْسْ قناة السويس تحولت مدينة سيدي عبد الرحمن والرايس حميدو إلى ميناء لعبور الأوربيين والأمريكيين المتوجهين إلى المشرق، واكتشفوا بالتالي جمال الجزائر وأسرار تاريخها وثقافتها...
كارل ماركس يُجاور قصر الشعب
من 1865م إلى 1870م كان يتردد عليها كل عام حوالي 1500 إنجليزي، ثلثاهم بين شهري أكتوبر وماي، ليقضوا شتاءهم في أجوائها المعتدلة وخضرتها التي كانت تغطي روابي الأبيار وتيليملي وكل الضواحي المحيطة بها. وشاع في ذلك الوقت بكامل أوربا أن مناخ مدينة الجزائر يساعد على الشفاء من الأمراض الصدرية والتنفسية على وجه الخصوص.
جاءها كل من الموسيقار والباحث الكبير في الموسيقى العربية، والجزائرية خاصة، كاميل سان سونس، والاقتصادي الشهير كارل ماركس أملا في الشفاء من الربو والسل.
سان سونس الذي قدَّم بعض أعماله الفنية في "الأوبرا" (المسرح الوطني الجزائري أو محيي الدين باش طارزي حاليا) في سنة 1910م، استعذب الإقامة بها، وبقي يزور المدينة من حين لآخر. وفي كل مرة كانت إقامته تطول بها أكثر من المرات السابقة، حتى توفي بها في سنة 1921م، بعد أن تذوق وتنفس أجواءها وفنونها عندما كان يقضي أيامه وسهراته بين أزقة القصبة وإلى جانب الشيخ محمد بن علي سفنجة أثناء الحفلات الغنائية الأندلسية التي كان يقيمها بمقهى مالاكوف.
أما كارل ماركس الذي كانت مدينة الجزائر بالنسبة إليه مجرد عيادة مختصة في الأمراض الصدرية منذ قدومه إليها في 20 فيفري 1882م في الرابعة والستين من عمره، فقد زادت صحته تدهورا واضطر للعودة من حيث أتى بعد حوالي سنة ليموت في بلاده بهدوء متأثرا بمرضه. وقد كان مقر إقامته بفندق فيكتوريا المقابل لقصر الشعب والمحاذي لما يُعرف اليوم ببنك الجزائر... فندق لم يكن يبتعد عنه كثيرا ربما باستثناء تفسحه من حين لآخر بحديقة التجارب بالحامة، مما حال دون احتكاكه بالأهالي وثقافتهم رغم نزعته العًمَّالية المدافعة عن البروليتاريا المستضعفة في العالم.
مدينة الأحلام الشرقية
فكَّرتْ إدارة الاحتلال، أمام الإقبال الكبير للإنجليزعلى مدينة الجزائر، منذ 1908م في إقامة كازينو كبير لاستيعاب أموال هؤلاء الأثرياء وفي تحويل القصور التي تعود إلى العهد العثماني إلى إقامات سياحية. وإذا كان المشروع الأول لم يتجسد إلا في سنة 1933م بإنجاز فندق أليتي (أيْ فندق السفير حاليا)، فإن الفكرة الثانية سوف تتطور حتى إلى بناء فيلات وقصور جديدة حسب النموذج المعماري القصبجي أو الموريسكي، كما يقال، بتشجيع من الحاكم العام جونار المحب للاستشراق. وقد برع في هذا النمط المعماري الذي تحول إلى موضة جديدة في العشريات الثلاثة الأولى من القرن 20م الإنجليزي بوكنال (Bucknal) المهندس المعماري الذي جاء الجزائر في 1875م وترك بعاصمتها حيا بأكمله من إنجازه يُعرف بـ: درب بوكنال بالأبيار، بالإضافة إلى الكنيسة الأنجليكانية السابقة الذكر بمفترق طرق أديس أبابا التي أنجزها في سنة 1909م.
تهافت الأثرياء والنبلاء الإنجليز على القصور "التركية" المحيطة بالمدينة وافتتنوا بجمال تصورها المعماري وببساتينها وجنانها وروائح الياسمين المنبعثة منها، وتنفسوا بها طيلة سنين طويلة الجمال الشرقي العربي- الإسلامي الذي لم تتوفر لهم فرصة اكتشافه من قبل بسبب الصراعات التاريخية المعروفة بين الشرق والغرب وبين ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
لقد سكنت هذه النخبة الإنجليزية بأغلب القصور و"الجنانات" العثمانية الواقعة بـ: "فَحْص" قصبة الجزائر العتيقة، واشترت 35 منها في نواحي الأبيار، تيليملي و الأحياء المحاذية لقصر الشعب الحالي ونزل الجزائر المعروفة آنذاك بحي مصطفى الموروث عن جنان الداي مصطفى باشا.
ففي نهاية القرن 19م اشترى جون بيل قصر مصطفى رايس ورممه بواسطة المهندس المعماري الفرنسي غِيُوشَانْ (Guillauchin) الذي كتب آنذاك في أحد مؤلفاته بأن شعاب وروابي الأبيار وحيّ مصطفى لم تحتفظ حتى الآن ببعض الديار والقصور الموريسكية والخضرة (المحيطة بها) إلا بفضل عدد من عناصرالجالية الأجنبية، والإنجليزية بصفة خاصة...
الملك إدوارد السابع يفتتن بـ: "جنان المفتي"
أما اللورد والليدي آرثور فقد وقع اختيارهما على فيلا "جنان المفتي" قرب مؤسسة التلفزيون بشارع الشهداء، والتي مازالت موجودة حتى الآن، أين استقبَلا في سنة 1905م الملك البريطاني إدوارد السابع وزوجته الملكة ألكسندرا.
كما سكن بالقصر المعروف بـ:"دار الأعور" أو"دار لوعر؟" اللورد هولدن (Holden) و زوجته، اللذان كانا يجاوران الإقامة الفخمة للِّيْدي هارتويل (Hartwell) الأسكتلندية.
في نفس الفترة، أقام الِمْيجُورْ بْلومْفيلْدْ (Major Bloomfield) بقصر "جنان السوداء"، والثري الأمريكي ماكْ لِي (Mac Lay) بالحي الذي مايزال يُعرف باسمه حتى اليوم بالأبيار (شُومَانْ مَاكْ لِيْ)، وعائلة لوفيت- هين (Lovett- Henn) بـ: "جنان سيدي مرزوق" بالأبيار أيضا حتى وفاتهما هناك...
لم تنس هذه الجالية الإنجليزية النخبوية، التي تجمعت في مدينة الجزائر و ضواحيها ما بين نهاية القرن 19م والعشريات الأولى من القرن 20م، أن تجعل لنفسها أحياء ومحلات راقية تليق بمقامها وثرائها في أفخم شوارع المدينة الأوربية. فقد كانت تقضي حاجياتها في محلات Vitalli-Franses وLawson et Lefebure و Pohoomull Brothers بشارعي باب عزون والعربي بن المهيدي ، وكانت تستريح من تعب التجوال في المدينة حول طاولات شاي محل Fille الشهير في ذلك الوقت بخدماته ذات المستوى الراقي والـ: Afternon Tea (شاي العشية)، ولعبت التنس ومارَسَتْ ركوب الخيل بضواحي بئر الخادم وبئر مراد رايس. كما قرأت جريدة الجالية الوحيدة The Algerian Advertiser التي أصدرها الإنجليزي Joseph H. Hyam في سنة 1885 م ما بين 1 نوفمبر/تشرين الثاني و نهاية أبريل/نيسان الذي تلاه.
"نيس" شمال إفريقيا
أصبحت مدينة الجزائر منذ نهاية القرن 19م بفضل هذه الأجواء السياحية مدينة جد منافسة لمدينة نِيسْ و كَـاْن الفرنسيتيْن، بحيث حَوَّلَتْ وجهة الإنجليز والأمريكيين نحو الضفة الجنوبية للبحر المتوسط ليكتشفوا لأول مرة إرث قرون من التراكم الحضاري العربي- الإسلامي بهذه البقعة، وسوف تستقطب بالتالي موضة قضاء الشتاء بمدينة الجزائر أوالإقامة الدائمة بها الأدباء والفنانين من مختلف بلدان العالم مثل الموسيقار السيمفوني العالمي يهوذا مينوحين الذي توفي في سنة 1999م ، جاك تيبو، سامسون فرانكوس وغيرهم. كما أتاها مفتونا في ثلاثينات وأربعينات القرن 19م الرسام أوجين دو لاكروا وأوجين فرومونتان مجنون "زنقة سيدي امحمد الشريف" و القصبة العليا.
لكن ما إن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى كانت أمور كثيرة قد تغيرت في الجزائر وفي العالم، أمور دفعت إلى الهجرة المعاكسة، وبالتالي لم يبق آنذاك بمدينة الأولياء والشعراء وريَّاس البحر سوى 250 فردا فقط من إنجليز بداية القرن 20م...
آنذاك كانت الجزائر تستعد لموعد آخر مع التاريخ ، موعد وضع حدٍّ للاحتلال والاستغلال وإقناع الفرنسيين بالعودة من حيث أتوا...