"الذي لم يأكل خبز "الفُوقَاصْ" (Fougasse)...يْمُوتْ فَرْطَاسْ"!!!
قبل بضعة عقود، كان لا يزال يزين رفوف المخابز العاصمية كل صباح ويلقي إقبالا واسعا من طرف الشيوخ والأطفال أكثر من خبز "السّْكُوبِيدُو" و"البَارِيزْيَانْ" (Parisien) أو "البَاقِيطَة" (Baguette)...
اليوم لا أثر له فيها بعد غزو الأفران الكهربائية ذات الحركة الدائرية (الروتاتيف).
اليوم لا أثر له فيها بعد غزو الأفران الكهربائية ذات الحركة الدائرية (الروتاتيف).
صحيج أن "الفُوقَاصْ" (Fougasse) "بَرَّاني" عن قصبة الجزائر وعن كل الجزائر، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر عليه اندماجه الناجح، الذكي والهادئ في البلاد رغم تهديده الخطير والعدواني في بداية عهده بالجزائر لخبز "المَطْلُوعْ" و"خبز العْرَبْ" و"الكَسْرة"، وحتى "خبز الدَّار" الأهلي الذي يُقال إنه دائما من نصيب "البَرَّانِي"... كما لا يمكن رغم هذا العدوان الحضاري إنكار لُطفه وكرمه القائم على المعاملة بالحسنى لكل الأسنان والأفواه البشرية دون تمييز عرقي أو ديني، حتى في عهد الاستعمار. وهكذا، نجح التسلُّل إلى القلوب دون دقٍّ على الأبواب... وهذا جزاءُ المُحسِنين إلى أفواه الأطفال والعجزة.
من بين أنواع الخبز الكثيرة التي عرفتها البشرية منذ أن اكتشف الفراعنة الخميرة في العام 2600 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، "الفوقاص" خبز لَمع وتميَّز عن "زملائه" بالليونة والحنان وبالرفق بالذين يجدون صعوبة في المضغ وبالتعاطف والتضامن مع الأفواه المنكوبة التي هجرتْها أضراسها وأسنانها.
دخل الجزائر عن طريق عاصمتها مع المحتلين الفرنسيين ليكتشف شعبا محافظا وشديد التمسك بأصالته حتى في جانبها الخبزي. لم يتمكن في البداية من إقناع البطون الجزائرية بالإقبال عليه لأسباب سياسية – روحية أكثر منها منفعية، لأن أهل البلاد تعاملوا بحذر شديد مع كل ما صدر عن الاستعمار وثقافته "الكافرة" وبقوا شديدي التمسك بخبزة البوزاعي وخبز العرب والكسرة والرغيف وغيرها من انواع الخبز المحلي. لكن الذين تجرأوا على مخالفة التقاليد والمغامرة بتجريبه، لم يصمدوا بعدها أمام جاذبيته ورقته ولذته وحتى جماله المتميز.
الفوقاص الذي استعار الجزائريون اسمه من سكان الضاحية الباريسية ،الذين كانوا أول من أطلقوا عليه هذه التسمية عندما كانت باريس تسميه خبز الحليب، كسر قيود الحيطة والحذر المتبادلين بين المحتلين والأهالي المسلمين ليصبح قناة للتبادل الحضاري بين فرنسا المسيحية والجزائر المسلمة، لذلك لن ينتظر كثيرا بعد الغزو العسكري لمدينة الجزائر وسهل المتيجة كي يستقطب بعض الأهالي ويحتل شيئا فشيئا صدارة رفوف "الكواشين" المسلمين كل صباح.
الفرنسيون الذين لم يكتشفوه بدورهم إلا في نهاية القرن التاسع عشر على يد الخبازين النمساويين، الذين استقروا بأعداد كبيرة في باريس في هذه الفترة، حافظوا على التقاليد الاستهلاكية النمساوية لهذا المنتوج، بحيث كان يُتناول مع فطور الصباح مصحوبا بالحليب.
كما احترموا العناصر والمقادير التي تدخل في صنعه وهي الفرينة، الملح، الخميرة، المواد الدسمة، السكر ومسحوق الحليب بالإضافة إلى الماء. أما الفرنسيين "التْشِّيتْشِيِّين" فقد صنعوه من الفرينة والملح والخميرة والسُّكر ودعَّموه بالزبدة والبيض والحليب السائل.
كما احترموا العناصر والمقادير التي تدخل في صنعه وهي الفرينة، الملح، الخميرة، المواد الدسمة، السكر ومسحوق الحليب بالإضافة إلى الماء. أما الفرنسيين "التْشِّيتْشِيِّين" فقد صنعوه من الفرينة والملح والخميرة والسُّكر ودعَّموه بالزبدة والبيض والحليب السائل.
لكن مدينة الجزائر التي كانت أول من تفتحت على الفوقاص في البلاد، بِحُكْم احتكاكها المُبَكِّر بالاحتلال، فقد كَيَّفَتْهُ مع ظروفها المحلية، فحَرَمتْهُ من الحليب والبيض والزبدة ومختلف العناصر التي تُعتبَر كمالية عند الأهالي الذين أفقرتْهم سياسة الاستعمار، ووَسّعتْ مجال استهلاكه إلى جميع وجبات الأكل اليومية وجميع الأطباق، بما في ذلك الشربة واللُّوبْيَة (الفاصوليا) وأخواتها. ثم حَصَرتْهُ من الناحية الاجتماعية في شريحة المُسنين والأطفال، ولم تعط أيَّ اهتمام لِجذوره التاريخية الأرستقراطية التي بدأت من مدينة فيينا النمساوية التي كانت مركز إشعاع حضاري كبير في أوربا في القرن 19م.
وبالتالي أصبح الفوقاص في الجزائر خبزة شعبية حتى قيل "اللِّي مْا كْلاَ الفُوقاص يْوَلِّي فَرْطَاسْ"، بل أصبح أصبح خبزةً بروليتارية، متفتحة على جميع الطبقات الاجتماعية وعلى جميع الطوائف الدينية والجماعات العرقية، لأن "لا فَرْقَ بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى"... ففتح له الأهالي بيوتهم ونصبوا له موائدهم برحابة صدر لم تتشرف بها بقية الإبداعات النمساوية في هذا المجال، مِثل "البَرْيُوشْ" (Brioche) والخبز الصغير بالشكولاطة (Petit pain au chocolat) والكَرْوَاسَانْ (Croissant)، أو الكرواسان المحشي (Croissant fourré)...إلخ. وباعه الخبازون بأسعار ادنى من أسعار الخبز العادي و"النمساويات" (viennoiseries) الأخرى التي بقيت تنتمي إلى عالم الكماليات إلى يومنا هذا.
ملأ الفوقاص مخابز الجزائر إلى وقت قريب، بما فيها مخبزة والدي، وخَفَّف على المُسنين و"الفَرْمَاشِينْ"، الذين قصف الدَّهر أسنانَهم وأضراسهم بنوائبه، عناء المضغ بدون عتاد المضغ، لكن التطور التكنولوجي والمنافسة التجارية بين الخبازين طردتْ الفوقاص من المخابز، وبدأ يختفي من السوق منذ أن بدأت "الكُوشات" الحَجرية القديمة تختفي لتحل محلها الأفران الحديثة الكهربائية. وكلما انهارت "كوشة" من هذه "الكوشات" تاركةً مكَانَها لـ"الرُّوتاتيفْ" (Four rotatif) خسر شيوخ الجزائر سلّات من من الفوقاص، ودون أدنى شك حزنتْ أفواههم...
لكن، كما يقول أهل الظُّنُون، ما ذا لو يكون جرَّاحو الأسنان وراء المؤامرة ضد الفوقاص في هذا الزمن، الذي تضاعفت فيه المؤامرات بشكل غير معهود، ليبيعوا الشيوخ طواقم الأسنان الاصطناعية...؟
بقلم: الأستاذ فوزي سعد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق