بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 25 فبراير 2015

جاؤوا ينشرون "الحضارة" في الجزائر...فكانت المفاجأة



"الأروقة الجزائرية"،"البوسطة"، المدرسة الثعالبية، بلدية الأبيار وبنايات أخرى تشبهها من حيث هندستها الجزائرية "القصبجية" تنتشر في أبرز شوارع المدينة الأوربية بالعاصمة متحدية انسجامها النمطي ومثيرة للتساؤلات... ترى ما سر هذا اللغز المعماري...؟
وقع للاحتلال الفرنسي بالجزائر ما وقع للملك فرديناند وإيزابيلا بالأندلس. فبمجرد إسقاط النظام السياسي و الاستيلاء على البلاد، قام بمحو آثار "البرابرة" عبر طمس ثقافتهم وتهديم مدينتهم التي لم تكن لديه القدرة على تذوق جمالها واكتشاف رقيها المعماري إلا بعد أكثر من تصف قرن. وكان المحتلون يهدفون إلى تأكيد "تفوقهم" ليس عسكريا فقط بل في جميع مجالات الحياة. لذلك اعتقدوا وبغرور فظيع أنهم الحضارة والباقي نفايات بشرية من الضروري التخلص من إزعاجها بالإبادة..أو بالترويض في أحسن الأحوال...
"الفئران" و "البرابرة"
بعد قرن من الاحتلال وفي عز الاحتفال "بالإنجازات" التي حققتها فرنسا بالجزائر خصوصا من الناحية العمرانية طيلة هذه الفترة، قَدِمَ Le Corbusier، أحد كبار المهندسين المعماريين السويسريين والعالميين، إلى مدينة الجزائر؛ القصبة والمدينة الأوربية معا، وعَلَّقَ على ما اكتشفه في كتابه La ville Radieuse (المدينة المُشِعَّة) الصادر في 1935م بأن "المتحضرين يعيشون كالفئران في الجحور، بينما يعيش البرابرة في الطمأنينة والرخاء". وكان هذا الموقف صفعة لقرن كامل من البناء والتشييد الاستعماري وصدمة للأوصياء على الحضارة. وكان ما قاله "الكورْبيزْييه" هو عين الحقيقة، لكن فات الأوان...
مع ذلك، كان من النخبة الأوربية الكولونيالية مَنْ فَهم هذا الواقع وناضل من أجل تغيير الذهنيات وحماية العمران الإسلامي وحتى الاستلهام منه منذ النصف الثاني من القرن 19م... لكن خدمةً لفرنسا وليس انشغالا على الجزائر كما قد يعتقد البعض.
وكانت الحركة التي قام بها هؤلاء المثقفون وراء حماية العديد من القصور والدّويرات والحصون الجزائرية التي يعود تاريخها إلى العهد العثماني واستمرار وجودها حتى اليوم. بل تعدى تأثيرهم مجال حماية التراث، وحفز عدد من المهندسين المعماريين وحتى السياسيين على تجميل المدينة الأوربية، أو "الجحور"، حسب تعبير "الكوربيزييه"، ببنايات مستلهمة من النماذج المعمارية القصبجية المحلية.
هؤلاء المثقفون هم المستشرق الباحث في علم الآثار هنري كلاين (Henri Klein) الذي أسس في سنة 1905م "لجنة أصدقاء مدينة الجزائر العتيقة"، المهندس المعماري الإنجليزي بوكنال (Bucknall) الذي زار المدينة لأول مرة في سنة 1873م وافتتن بجمال القصور المحلية والتصور العام لقصبة الجزائر وارتباطها الوثيق والمنسجم بالبحر، آل فيدال (Les Vidal) الذين جاؤوا من جزيرة مينورقة في 1840م وأصبحوا بعد نصف قرن من أعيان المدينة وأشهر مهندسيها المحبين للتراث المعماري القصبجي، وكذلك المهندس الشهير "غيوشان" (Guiauchin) الذي تأسف في كتابه Alger في سنة 1905م عن "تلطيخ" و"تمزيق" النسيج المعماري للمدينة الإسلامية؛ قصبة الجزائر...
"لا تحجب الشمس عن جارك"
كانت هذه المجموعة النخبوية من بين القلة القليلة الأوربية التي فهمت مبكرا بأنه ليس أليق لمناخ المدينة من الهندسة المعمارية المحلية ومبادئها الفلسفية، وليس أقبح وأكثر تعارضا معه من التصور المعماري للمدينة الأوربية. وأدركوا سر ضيق أزقة القصبة والتواءاتها وعدم انتظامها، وسر أنفاقها (أو سباطاتها) المظلمة هي الأخرى ودروبها، وكذلك الحكمة من صغر وضيق نوافذها، وتَوَجُّه دْويرَاتها وقصورها نحو "وسط الدار" وإعراضها عن العالم الخارجي... وهي كلها خصائص تُلطِّفُ من حرارة الجو شبه الدائمة من شهر أفريل حتى شهر نوفمبر، وتُسَهِّل تهويتها، وتُطَبِّق الحديث الشريف القائل: "لا تحجب الشمس عن جارك". لكن بقيت هذه النخبة في حاجة إلى عنصر ينظم طاقاتها الفردانية المبعثرة هنا وهناك في مشاريع متكاملة، لكن صغيرة، حتى جاء "جونـار" إلى رئاسة الحكومة العامة ما بين 1898م و1900م، ثم من 1903م إلى 1911م وفي 1919م ليقوم بهذه المهمة ويَكُون الغطاء السياسي لإعادة الاعتبار للفلسفة المعمارية الجزائرية - العثمانية في قلب المدينة الجديدة الأوربية. وقد تزامن مجيئُه مع الإقبال الكبير للأثرياء الإنجليز على السياحة والإقامة في مدينة الجزائر وطلبهم المتزايد على القصور المحلية العتيقة و"الجنانات" المنشرة في ضواحي المدينة.
لم تكتف سياسة جونار في هذه الفترة بترميم القصور العتيقة وإعادة تهيأتها، بل شجعت المهندسين المعماريين المعجبين بها على تقليدها في إنجاز المشاريع العمرانية الجديدة، بالإضافة إلى القيام بنشاط إعلامي واسع للتعريف بالآثار العثمانية وبما تبقى من قصبة الجزائر. وقد كان هنري كلاين أبرز الذين قاموا بهذه المهمة الأخيرة من خلال مجلته المعروفة Feuillets d’El-Djazair (أوراق الجَزايَرْ).
ثمار الاستشراق المعماري
بمجرد حلول سنة 1904م، بدأت سياسة جونار تُؤتي ثمارها، رغم انتقادات الكولون المتطرفين الذين وصفوه بـ: "الأنْديجانوفيلْ"، وتم تدشين أول بناية مستوحاة من الفن المعماري الجزائري في يوم 6 أكتوبر 1904م تمثلت في المدرسة الثعالبية الواقعة قرب ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي في شارع ابن شنب بالقصبة، وهي من توقيع المهندس المعماري الفرنسي Petit. ثم تلتها إنجازات أخرى سوف تصنف فيما يعرف بالهندسة المعمارية الموريسكية الجديدة (Architecture Néo- Mauresque) كمقر جريدة Alger-Républicain، قَبْل أن يتحول إلى مطبعة الحزب بعد الاستقلال، في سنة 1906م من طرف نفس المهندس، والذي مايزال قائما إلى اليوم قبالة فندق ألْبيرْ الأول في زاوية شارع باستور ونهج خميستي حيث يقع اليوم مقر صحيفة "ثوت الأحرار".
وفي سنة 1909م انتهى Petit من وضع اللمسات الأخيرة على بناية "الأروقة الجزائرية" الضخمة بشارع العربي بن المهيدي، قبل أن ينافسه من الناحية الجمالية والفخامة زميلاه Voinot و Tondoire بالتحفة المعروفة بـ: "البريد المركزي" (La Grande Poste) في سنة 1910م. ثم واصلت البنايات الموريسكية الجديدة احتلال الشوارع والساحات الرئيسية بالمدينة الأوربية في العاصمة، فظهر بالتالي مقر "ولاية الجزائر" بشارع عَسْلة حسين، مقر بلدية الأبيار وبريدها، الكنيسة الأنجليكانية التي أنجزها بوكنال في 1909م بمفترق طرق أديس أبابا، فندق سان جورج (الجزائر حاليا) بتوقيعٍ من آل غيوشان، وجزء من قصر الشعب، بالإضافة إلى دار الذكرى المائوية لاحتلال الجزائر (La Villa du Centenaire) التي بناها المهندس Claro في سنة 1930م بالباب الجديد بالقصبة العليا بمساعدة سكان القصبة.
سوف تؤدي هذه الحركة المعمارية التي حركها جونار إلى بروز موضة الفيلات الموريسكية الجديدة التي بناها الأثرياء الكولون، الإنجليز والأمريكيين بين الأبيار وتيليملي وحيدرة التي مازالت حية تُرزق إلى يومنا هذا. كما عبدت الطريق للمهندس كلارو ليضع بمدرسة الفنون الجميلة بتيليملي أُسُسَ عمران جديد يمزج بين الفلسفتين المعماريتين الجزائرية العتيقة والفرنسية. وسرعان ما تجسدت هذه الفكرة في البنايات الجميلة المحيطة بأعالي شارع محمد الخامس وأغلب بنايات شارع كلود ديبيسي، والتي تعتمد على نموذج العمارة الأوربية في جوهرها وعلى الزخارف الإسلامية من حيث الشكل كما يبدو في أشكال النوافذ والأبواب الرئيسية.
لكن الغريب في الأمر أن هذه الحركة العمرانية الموريسكية الجديدة التي بدأت تستنفذ أنفاسها وطاقاتها منذ 1930م توقفت تماما بعد الاستقلال باستثناء بناية معهد العلوم الاقتصادية بالخروبة التي بناها المهندس بوشامة في السبعينيات وقصر الثقافة في الثمانينيات. كما أن ذلك الثلث المتبقي من القصبة عن التهديمات الواسعة التي قام بها الاحتلال في القرن 19م لم يبق منه اليوم شيء كبير يُذكر...في الوقت الذي كثر "أصدقاء القصبة" ومحاموها... بل وفاضوا عن الحاجة !
المصدر: قصبة الجزائر، الذاكرة، الحاضر والخواطر: فوزي سعد الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق