بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 15 مارس 2015

قصر «تاجنينت» في صحراء الجزائر: عمره ألف عام صامد في مواجهة رياح التغيير




سليمان حاج إبراهيم   «القدس العربي»
واحة خضراء غناء تتغنج بدلال وهي آمنة مسترسلة على سفح أهرامات ضخمة، تعلوها مأذنة فريدة تشبه نقطة صغيرة في بحر من الرمال ممتد على مساحة شاسعة، يشقها خط ملتو هو مجرى وادي، يكون جافا مرات، ويغمر ما حوله حينما يفيض. مشهد بانورامي تراءى لي بوضوح من نافذة طائرة «الأتي أر» المتهالكة والتابعة للخطوط الجوية الجزائرية وهي تحلق من علو منخفض في رحلتها من العاصمة الجزائر نحو مدينة غرداية. لحظات وتحط بنا الطائرة في مطار مفدي زكريا، كنت أسمع المضيفة وهي تعلن وصولنا، والقصة المأسوية لشاعر الثورة الذي أطلق اسمه على هذا المعلم حيث مسقط رأسه، وتغنى بالمنطقة الفريدة في كل شيء بالكثير من القصائد الخالدة، تسبق نظري. وحسرة أشعر بها على من نظم نشيد الثورة، لم يتمكن يوما من العودة حيث ترعرع بسبب خلافات مع رفقاء درب الكفاح المسلح. بسرعة كنا نسترق بعض اللقطات والصور، لتلك القصور الخمسة العريقة التي نبتت في هذه الفلاة على جبال صخرية جرداء لا شجر بها، ولا زرع، لتتحول بمرور السنين إلى تحفة معمارية تشبه حدائق بابل المعلقة. كانت أشعة الشمس آفلة وتنعكس على كثبان رملية آسرة لحظة حلقنا فوق مدينة غرداية أو وادي ميزاب التي عاشت قبل فترة مرحلة عصيبة من تاريخها، بسبب أحداث دامية ومنازعات ومناوشات ساهمت بها أطراف خفية، وأخذت هامشا من نشرات أخبار المحطات العالمية والصحف الدولية. «المدينة أصبحت هادئة وهي حالمة وادعة تحاول ترميم ذكرياتها وتجاوز آثار محنتها العصية، ونرجو أن لا نعيش ذات التجربة المأسوية»، يتحدث معي حسيسن المرشد السياحي الذي أقابله في كل زيارة، ولا يزال ذاته منذ سنوات طويلة يرافق السياح والأجانب الوافدين إلى تغردايت مثلما تسمى بلهجتها المحلية الأمازيغية.
«أم القرى»
إلى العطف ستكون وجهتنا الأولى يتحدث مرشدي الذي وكّلت له أمر التخطيط للرحلة وهو يستمتع بعمله، ويعيش تجربة الدليل السياحي بكل جوارحه وكأنه خلق ليكون كذلك. يخبرني باعتزاز في الطريق إلى «تاجنينت» التي تعد أول قصر شيد في منطقة وادي ميزاب أن الناس لا يزالون في غمرة احتفالاتهم بذكرى تأسيسها السنوية التي تجاوزت الألف عام، وحيث لا تزال حتى الآن بعض البيوت القديمة تقاوم بثبات عوامل الزمن والاندثار وتتجاوز كل المحن. حسيسن الذي آثر البقاء في هذا الوادي على العيش في فرنسا حيث أشقاؤه ما زالوا هناك، كان يتحدث طيلة الطريق عن تفاصيل الأزمة التي عاشتها المنطقة وعن خلفياتها، ليؤكد أن مدينته العطف كانت بعيدة عن هذا الصراع. ويعتبر أن ذلك يعود للتعايش اللافت بين المتساكنين من الأمازيغ السكان الأصليين، والعرب. يكشف مرشدي أن هذا الاسم الذي يحمله ويعرف به، أطلقه عليه أحد السياح الإسبان حينما لم يتمكن من نطق لقبه جيدا ومنذ ذلك اليوم أصبح الجميع ينادونه به. يؤكد الأربعيني المرح أن هناك آلاف السياح من كل دول العالم يأتون سنويا إلى غرداية للوقوف على أثارها التي صنفتها في ثمانينيات القرن الماضي، منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم اليونيسكو ضمن الإرث العالمي، وتؤكد على ضرورة حمايتها. يملك مرافقي ملكة قوية في التواصل مع الناس، وهو لهذا يتحدث بطلاقة سبع لغات عالمية أجادها من تعامله الدائم مع الأجانب ومرافقتهم لهم في رحلاتهم الاستكشافية والبعثات العلمية وحتى الرسمية.
«سقوط دولة تيهرت الرستمية»
سرنا نحو 10 كيلومترات للوصول إلى أول معلم في غرداية، أغرم نتلزضت أو قصر الصوف، وكان أساس الحركة العمرانية في هذه الصحراء القاحلة الجرداء التي جاهد سكانها لنحت صخورها واستخراج مياه عذبة من أعماق الأرض الجافة. وعلى امتداد مجرى وادي ميزاب، انتصبت بشموخ خمسة قصور أو قرى متجاورة حملت تسميات عربية وبربرية وهي (العطف: تاجنينت) و(بنورة: أث بنور) و(وسط غرداية: تغردايت) و(بني يزقن: أث ييزجن) و(مليكة: أث امليشيت) وعلى مسافة بعيدة منها (القرارة) و(بريان). ولا تزال حتى الآن بقايا وأطلال هذا القصر شاهدة على عمارة المنطقة من قبل سكان فروا في عصور غابرة من الفتن والمحن التي كان يشهدها العالم الإسلامي في تلك الفترة بحثا عن الأمان ودرءا للمخاطر وتحصنا في ظهراني هذه الجبال. وعلى مدخل بلدة تاجنينت توجد لوحة عملاقة تتحدث عن الذكرى الألفية لتأسيس المدينة عام 1012 الموافق لـ 402 للهجرة وترحب بزوارها، حيث أسسها خليفة بن أبغور بعد سقوط (الدولة الرستمية عام 296 هـ).
مقام عريق ملهما
لمهندس معماري عالمي
يجب أن نزور أولا مقام عمي إبراهيم، يخاطبني حسيسن وينطلق في حديثه عن روعة تصميم مقبرة الرجل الصالح الذي استلهم منه المعماري الفرنسي ذو الصيت العالمي، لو كوربوزييه تصميما لأحد أشهر المباني التراثية في سجله الباهر. ويتميز المبنى بشكله الفريد ودوائره المتعددة الأحجام، لتعكس بإحكام أشعة الشمس على مداخله ونوافذه الصغيرة التي تسمح بدخول ما يسمح بإضاءة المكان من دون التأثير على درجة الحرارة في الداخل والتي تظل معقولة حتى في أشد فصول السنة حرا. من المكان، قادتنا خطانا سيرا إلى مقام سيدي أمحمد (أبي عبد الله محمد بن بكر بن يوسف الفرسطائي النفوسي) الذي يعتبر مؤسس نظام حلقة «العزابة» المميز والتي تلعب دورا محوريا في حياة السكان وتنظم شؤون حياتهم العامة وتدير كل تفاصيلها بما يكفل تحقيق التضامن بين الأهل وتحقيق العدل.
نظام عرفي
لتنظيم شؤون الناس
تتميز غرداية بأنظمتها الاجتماعية العرفية التي تعد المنظم والمسير لشؤون الحياة منذ تأسيس المدينة، ولم تتمكن أي سلطة مدنية من تجاوز هذا الإرث الذي ساعد في تحقيق التوازن وضمان الاستقرار من دون حدوث أي تجاوزات. وعلى رأس المؤسسات العرفية الموجودة حلقة العزابة التي تتشكل من الضالعين في علوم الدين والمتبحرين في أبوابه وكل من يتصف بالورع والتقوى ليكونوا هم الحلقة الأهم. وتأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية مجلس الأعيان الذي يعتبر المسير الحقيقي والفعلي لشؤون الناس اليومية والضابط لتفاعلاتها والوسيط في حل النقاشات والمنازعات. واحتفلت المدينة مؤخرا، بما يعتبره سكانها الحدث الأبرز في تاريخ المنطقة كلها، وهو ختم عضو حلقة العزابة الشيخ سعيد محمد كعباش لتفسير القرآن الكريم. وحضر الاحتفال الضخم الذي أقيم بالمناسبة شخصيات من كل الجزائر ومن الخارج لمعايشة حدث آخر حلقة من سلسلة دروس باشرها الشيخ الذي عكف منذ ثلاثة عقود على هذا المشروع.
نمط عمراني فريد
الوافد إلى غرداية لابد له من أن يزور أحد القصور القديمة التي تتميز بنمط عمرانها الذي يتوائم والطبيعة القاسية التي تميز المنطقة الحارة صيفا، والباردة شتاء مع وجود زوابع قوية تهب عليها في مواسم عدة. ويؤكد الخبير الدولي في مجال العمران وعلم الاجتماع الدكتور إبراهيم بن يوسف أن النسق العمراني يتميز بوجود تآلف مع المحيط وفي تفاعل مع الطبيعة. ويعتبر أن الميزة الأولى هي وجود المسجد في أعلى قمة الجبل وتدور حوله المباني والمنازل في دوائر تشكل تدريجيا القصر الذي روعي فيه مواصفات دقيقة تنظم علاقة الناس ببعضهم بوجود أعراف واضحة في تصميم البيوت. والشوارع أبدا لا تجدها هنا في خط مستقيم لكسر حدة الرياح وتماهيا مع انحدار الجبل الذي شيدت عليه المدن. ويعتبر الخبير الدولي أن العديد من الدراسات أنجزتها جامعات عريقة حول الطابع العمراني المميز لولاية غرداية ويعتبرها الباحثون أحد أبرز النماذج المشرقة لقدرة الإنسان على تطويع المحيط وفق رغابته وقدر إمكاناته خصوصا وأنها شيدت على أرض قاحلة جرداء ولم تكن لهم إمكانات كبيرة. ولا تزال القصور العريقة محافظة على نسقها، حيث الشوارع ضيقة ولا يمكن أن تدخلها العربات والسير فيها يكون مشيا على الأقدام أو على الدواب التي تستخدم لحمل الأغراض. وتتميز البيوت المتجاورة المتكونة من 3 طوابق في الغالب بكواتها المفتوحة على الشارع لتسمح بدخول قدر محدد من ضوء الشمس للحفاظ على البيئة وعدم تلويثها.
تقسيم عضوي للبيوت
يعتبر المهندس يحي حاج امحمد أن البيوت الميزابية تتميز بتقسيم خاص حيث يكون على المدخل جناح للرجال يسمى «أدويريت» وعادة ما يخصص وسط الدار للنساء ليأخذن راحتهن. ولكل منزل قبو أو دهليز، يكون حارا في الشتاء، وباردا في أيام القيض بشكل غريب حيّر الباحثين المعماريين. ويعتبر أن الأمر سببه استخدام مواد بناء متوافقة مع الظروف الطبيعية بالاعتماد على الحجارة الصماء والطين. وكل بيت له فتحة في السقف تسمح بمرور أشعة الشمس لإنارته بشكل طبيعي. وتتشابه البيوت في هذه المدن التراثية في سعي للحفاظ على هذا الطراز المعماري حيث شيدت البيوت الحديثة بنفس النمط. وكل المدن محاطة بسور ذي أبواب خشبية ضخمة تغلق مع حلول المغرب ولا تفتح إلا للسكان بوجود أبراج حراسة بها نوافذ بزوايا واسعة لا يمكن اختراقها بالأسلحة. وخارج السور توجد الأسواق التي تتم فيها حتى الآن عمليات بيع بالمزاد، تسمى دلالة.
نهاية العالم
الطابع العمراني الخاص لقصور وادي ميزاب، يتميز بمواصفات راعى فيها سكانه ظروفهم، وناضلوا للحفاظ عليه مئات السنين بعيدا عن رياح التغيير في العالم الذي أصبح قرية واحدة بفضل شبكات التواصل الاجتماعي. وسألنا الدكتور يحي بكلي ابن المنطقة الذي يدرّس علم المعلومات في جامعة خليجية مرموقة، عن سبيل التعامل مع التحدي البارز الذي يعتبر أهل ميزاب أنه الأخطر الذي يواجهونه منذ آلاف السنين للحفاظ على موروثهم وصونه. يكشف الباحث أن العطف تسمى أم القرى لأنها الأولى من القصور الميزابية السبعة تأسيسا، هي في الوقت ذاته الأخيرة في مجرى وادي ميزاب، تبدو معزولة وبعيدة عن بقية القصور. ويضيف أنه حينما كانوا صغارا سمعوا أن أحد المرشدين السياحيين لما وصل سد أحباس حيث يوجد قصر الصوف الذي هو أساس المدينة، رفقة سياح فرنسيين قال لهم بنبرة جدية هنا نهاية العالم. ويسرد قائلا: «أنه حينما كان صغيرا تصور أنه بعد هذا السد الذي جرفته أحد الوديان القوية التي تشهدها المنطقة كل فترة، يوجد منحرف الكرة الأرضية». لكن بعد أن اكتشف الفرق بمرور السنوات، ومع إرهاصات العولمة تأكد أنه ليس إلى هذا الحد. ويوضح فكرته بالتأكيد على أنه لم يكن أحد يتصور ولو للحظة أن الانترنت سيجسد كل التحوّﻻت التي بدأت تتجلى. ويشدد في حديثه التحليلي لتطورات الأحداث في هذه الحاضرة التي تعتبر من أكثر المناطق محافظة في الجوار، أنه لم يكن يتخيل أن المرأة الميزابية التي تتميز بلبسها للحائك الصوفي الأبيض، الذي يغطي كامل جسدها، مع فتحة عين واحدة للمتزوجة ووجه كامل للعزباء، سيكون لها أصدقاء من الرجال وأنها ستتكلم مع أجانب. بالمقابل يضيف الدكتور بكلي أن هذه الصرعة التكنولوجية أتاحت لتلك الفتاة أن تحصل على شهادات عالية، بفضل التعليم عن بعد، وبفضل افتتاح العديد من المدارس، وجامعة ضخمة، وهي التي قبل الانترنت لم تكن (بحكم أعراف المجتمع) تحلم بالتعليم العالي، أو الحصول على الثانوية العامة، وهو أمر أشبه بجائزة نوبل يضيف.
فورة التكنولوجيا وسط الصحراء

ويعتبر الباحث الذي له مؤلفات في الموضوع، أنه قبل عالم الانترنت أثناء دخول تكنولوجيا الفضائيات على المنطقة، كان شاهدا على حالة الارتباك التي وقعت فيها النخبة المديرة لشؤون البلدة الاجتماعية إلى درجة أن بعضهم أفتى بأنها حرام والمتفتح منهم ترك الأمر للقرار الشخصي لكل أسرة. وكانت سابقة خطيرة في حكم الميزابيين إذ لم نكن متعودين على أن يترك لكل واحد أن يتخذ موقفا من الأشياء الجديدة الوافدة باستقلالية عن المجموعة. ومع تزايد سرعة رياح العولمة فان حياة السكان، تشهد صراعا بين مسلماتهم وضرورات التأقلم، يؤكد الباحث. وأشار إلى أنهم «ينجحون في مرات ويخفقون في أخرى». فمساجد قصور وادي ميزاب، أصبحت تعتمد تكنولوجيا الإرسال الأثيري، والسكايب، وتنقل عبر الايستريم، حيث أن إبن المنطقة في أمريكا أو في قطر أو في سويسرا يعايش أحداث بلدته كما لو أنه لم يخرج منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق