بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 28 ديسمبر 2014

جذور صناعة الحليّ الفضية في بني يَنِّي في جبال جرجرة


حرفي جزائري في بداية القرن العشرين

"....الصنائع والحِرف البجائية لم تَتَخَلَّف عن مواكبة التقنيات والنماذج والموضات الإيبيرية حيث لم تكن توجد تباينات تقريبا في أساليب عمل الصّيَّاغِين والخَرَّازِين والنَّحَّاسِين والدَّبَّاغين والقَزَّازين والنَّسَّاجين والعَطَّارِين والمَقْفُولْجِيِّين وغيرهم من الحِرفيين البِجائيين من جهة ونُظرائهم في المُدن والحواضر الأندلسية من جهة أخرى. ومن بجاية انتشرتْ هذه التقنيات والصَّنائع الإيبيرية كبقعة الزيت في كامل المدن والأرياف الجزائرية القريبة؛ من مَجَّانة وسْطِيفْ وبُرْج بُوعْرِيرِيجْ وقلعة بني عبَّاس إلى مختلف قرى جبال جَرْجْرَة. أما قلعة بني حمَّاد فقد انهارتْ، حسب البحوث التاريخية والحفريات الأثرية، قبل أن تصلها العديد من الإبداعات الأندلسية الحديثة، بمقاييس ذلك العهد، التي شهدتها بجاية...
فصناعة الحليّ والمجوهرات الفضية، على سبيل المثال، المتميِّزة والشهيرة في بلدة بني يَنِّي في مرتفعات جرجرة التي يُعتقَد أنها صناعة أمازيغية خالصة ليست في واقع الأمر سوى إحدى تلك الحِرَف والصنائع الأندلسية التي انتهى بها المطاف في المنطقة مُنْتَقِلَةً إليها من بجاية.
وهذا ما تؤكده البحوث والدراسات الحديثة المتخصصة التي من بينها أعمال أنجزتْها الخبيرة الفرنسية في الأنثروبولوجيا كَامْبْسْ – فابْرر هُنرِيَّات (Camps – Fabrer Henriette) والباحث لُوسْيان غُولْفِين (Golvin Lucien)، وقبلهما المستشرقان الفرنسيان جورج مارْصِي (Georges Marcais) وبُول أُودِيلْ (Paul Eudèl) في نهاية القرن 19م وبدايات القرن 20م...
فهؤلاء يتفقون على الأقل على أن تِقنيةَ طَلاَء المجوهرات الفضية المرصَّعة بالأحجار الكريمة في بني يَنِّي بمادة المينا (Les bijoux émaillés filigranés) التي تُزيِّن الحِلية وتجعلها تلمع وتحفظها من التأثيرات السلبية للرطوبة والهواء والألوان البرَّاقة، على حد قول هنريات كامبس فابرر، عِلمًا أنها رأسمال صناعة الحلي في بني يَنِّي وعمادُها، هذه التقنية غريبةٌ عن جبال جرجرة في شمال شرق الجزائر وعن كل الأرياف المغاربية، وإنما هي تقنية حَضَرية جاءتْها من الأندلس التي برزتْ فيها هذه الطريقة في صناعة الحليّ منذ القرن 12م وتَرَسَّخَتْ وشاعتْ ابتداءً من القرن 13م منذ عهد مُلك بني الأحمر لغرناطة، وازدهرت بعد هذه الفترة إلى غاية سقوط هذه المملكة عام 1492م .
وبعد انتشار هذه التقنية الأندلسية في المدن الجزائرية، من بينها بجاية، تَبَنَّتْهَا بعضُ الأرياف القريبة من الحواضر قبل أن يتم التخلي عنها تدريجيا في المدن بظهور إبداعات جديدة، فيما سَمَحَ عدمُ الاحتكاك الكافي بالابتكارات الحديثة للأرياف النائية، المعزولة نسبيا بتضاريسها الوعرة، باستمرار وجود هذا الفن الحِرفي لديها وتعميره إلى اليوم في غياب البدائل، مثلما هو الشأن في بني يَنِّي الجزائرية ومُقْنِينْ وجَرْبَة التونيسيتيْن وتِنْزِيتْ وتَارُودَانْتْ في المملكة المغربية...
وبَقَيَتْ هذه الأرياف النائية تُكَرِّرُ إلى اليوم التقنيةَ ذاتها منذ مئات السنين بعدما اندثرت واختفتْ في غيرها من القرى، وأيضا في الحواضر التي تَبَنّتْ ابتكاراتٌ وأساليب جديدة.
هذا ما يعتقده الباحثون الخبراء في ظل ما تَوَفَّرَ من القرائن الأنثروبولوجية والدلائل الأثرية المُتاحة إلى حَدِّ اليوم، لكن دون الحَسْم بشكل قاطع ونهائي في هذه المسألة لعل اكتشافات أثرية جديدة قد تطرأ في المستقبل وتوفر إيضاحات إضافية.
هذه المجموعة من الباحثين الفرنسيين، وهي من أبرز وأهم الخبراء في هذا المجال الأنثروبولوجي من الدراسات حول التراث الاجتماعي/الثقافي الأمازيغي، تُجمِع على أن تقنيةَ استخدام مادة المينا (émail en filigrane) انتقلتْ إلى بني يَنِّي عن طريق أندلسيِّي بجاية المسلمين. ولو أن بضعةَ أصوات في وسط الخُبراء بدأتْ تنسبها منذ بضعة عقود إلى يهود الأندلس فقط، دون أن تنجح في إحداث الإجماع حول هذه النظرية التي يوجد مَن يستبعدُها أكثر مِمَّنْ يتبناها ، فَضْلاً عن أن الحكايات المُتوَارَثَة في جرجرة عبْر الأجيال في شَكلٍ أشْبَه بالأساطير العتيقة عن دخول صناعة هذا النوع من الحليّ، بل وكل الحليّ، إلى بني يَنِّي لا تتحدث عن أيَّة رِيَادَةٍ لليهود في المنطقة لا قديما ولا حديثا.
بل هي تُرجع الفضلَ إلى عائلةِ من قلعة بني عباس القريبة من بجاية، وعميقةِ التأثر بفنونها وصنائعها الأندلسيةِ القلب والقالب، في تعليم المنطقة أسرار هذه الحرفة الأندلسية العتيقة بعد أن جيء بها كأسيرة إلى بني يَنِّي إثْرَ مَعارك في بداية القرن 16م في إطارِ صِراعٍ عسكري/سياسي بين المنطقتيْن، بني يَنِّي المُوالية لابن القاضي سلطان كُوكُو وحليف العثمانيين من جهة وقلعة بني عبَّاس حامِية السُّلطان عبد العزيز من جهة أخرى، على خلفية بسط النفوذ العثماني على المنطقة.
هذه العائلة الأسيرة التي اشتهَرتْ بنبوغها في صناعة الحليّ والمجوهرات والسلاح تَحوَّلتْ إلى نوَاة قرية "آيَتْ الأَرْبْعَاء" (أيْ بَنِي الأربعاء) التي سَكنتْ لاحقا أرضًا وَفَّرَتْها لها أسرةُ آيَتْ مْعَمَّرْ (أيْ بني مْعمَّرْ) واستفادتْ منها في المنافسة مع قبيلة آيتْ مَنْقَلاَّتْ المُحاذية. وفي هذه الفترة، ظَهرتْ لأول مرة في المنطقة الحلْيَة الشهيرة بـ: "تَبْزِيمْتْ" المعروفة إلى اليوم، التي تُزَيِّنُ بها النساء المحليات جِبَاهِهن، والتي كانت صناعة مُحتكَرة تقريبا من طرف بني عباس حسب الفرنسي بُولْ أُودِيلْ الذي تحادث في نهاية القرن 19م مع أهل بني ينِّي بهذا الشأن ...
عندما سَأل الكاتب بول أوديل في نهاية القرن 19م شيخا طاعنا في السِّن من سُكان بني يَنِّي كان قد بلغ الـ: 100 عام من العُمر: مَتَى بدأ سكانُ منطقتِه يستخدمون مادة المينا في الحليّ؟ رَدَّ عليه الشيخُ بأن هذا الأمرَ يعود إلى أكثر من 500 عام. وهو ما يتوافق نسبيا مع الفترة التي تَذْكُرُهَا الروايات الشعبية فيي المنطقة .
كما يُلاحَظ أن "تَبْزِيمْتْ" وأدوات مُحترِفي صناعة الحليّ في بني يَنِّي تَحمِل في مُجملها أسماء عربية مُكيَّفة شكليًّا مع الأمازيغية، مما يُغري لأول وهلة بالاعتقاد أنها ليستْ أصيلة في المنطقة بل نابعة من ثقافة عربية اللسان بالدرجة الأولى التي نعتقد أنها الثقافة الأندلسية مصدر تقنية صناعة حليّ بني ينِّي الفضية.
ومن بين هذه الأدوات: تَرَبُوزْتْ المُشتقَّة من الرَّبز، مُحَبّسْ المأخوذة من الحَبْس، تَبَلْقُورِينْتْ المُكيَّفة من أبو القرنيْن أو "بو القُرِين" العامِّية حسب الكاتب الفرنسي بول أوديل، تَمُقَصْ المشتقة من المِقَصّ، القالب، الفُرْن، الطَّابع، المبْرد، أجَعْبُوبْ وهي من الجُعْبُوب، السّْكَيْنْ وهو تحريف طفيف لـ: السِّكِّين...إلخ .
أما تَبْزِيمْتْ فمصدرها كلمة الإبْزِيم العربية التي يقول "المعجم الوسيط" إنها "عُرْوَةٌ مَعْدِنِيَّةٌ في أحد طرَفيْها لسان، تُوصَل بالحِزام ونحوه لتَثْبيت طرف الحزام الآخر على الوسط"...".
المصدر: فوزي سعد الله: الشتات الأندلسي في الجزائر والمنطقة العربية والمتوسطية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق