بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

الإنجليز في مدينة الجزائر: مواسم عشق القصور و..الياسمين





بقلم: فوزي سعد الله
مِنْ هؤلاء الإنجليز الذين فتنتهم مدينة الجزائر قبل أكثر من قرن، لم يبق الآن سوى بعض المعالم المعمارية..، لعل أهمها يتمثل في الكنيسة الأنجليكانية الواقعة بمفترق طرق أديس أبابا والتابعة حاليا لمصالح السفارة البريطانية...
*********************************
منذ أن شق المصريون بمساعدة المهندس الفرنسي فرديناند دو ليسيبْسْ قناة السويس تحولت مدينة سيدي عبد الرحمن والرايس حميدو إلى ميناء لعبور الأوربيين والأمريكيين المتوجهين إلى المشرق، واكتشفوا بالتالي جمال الجزائر وأسرار تاريخها وثقافتها...
كارل ماركس يُجاور قصر الشعب
من 1865م إلى 1870م كان يتردد عليها كل عام حوالي 1500 إنجليزي، ثلثاهم بين شهري أكتوبر وماي، ليقضوا شتاءهم في أجوائها المعتدلة وخضرتها التي كانت تغطي روابي الأبيار وتيليملي وكل الضواحي المحيطة بها. وشاع في ذلك الوقت بكامل أوربا أن مناخ مدينة الجزائر يساعد على الشفاء من الأمراض الصدرية والتنفسية على وجه الخصوص.
جاءها كل من الموسيقار والباحث الكبير في الموسيقى العربية، والجزائرية خاصة، كاميل سان سونس، والاقتصادي الشهير كارل ماركس أملا في الشفاء من الربو والسل.
سان سونس الذي قدَّم بعض أعماله الفنية في "الأوبرا" (المسرح الوطني الجزائري أو محيي الدين باش طارزي حاليا) في سنة 1910م، استعذب الإقامة بها، وبقي يزور المدينة من حين لآخر. وفي كل مرة كانت إقامته تطول بها أكثر من المرات السابقة، حتى توفي بها في سنة 1921م، بعد أن تذوق وتنفس أجواءها وفنونها عندما كان يقضي أيامه وسهراته بين أزقة القصبة وإلى جانب الشيخ محمد بن علي سفنجة أثناء الحفلات الغنائية الأندلسية التي كان يقيمها بمقهى مالاكوف.
أما كارل ماركس الذي كانت مدينة الجزائر بالنسبة إليه مجرد عيادة مختصة في الأمراض الصدرية منذ قدومه إليها في 20 فيفري 1882م في الرابعة والستين من عمره، فقد زادت صحته تدهورا واضطر للعودة من حيث أتى بعد حوالي سنة ليموت في بلاده بهدوء متأثرا بمرضه. وقد كان مقر إقامته بفندق فيكتوريا المقابل لقصر الشعب والمحاذي لما يُعرف اليوم ببنك الجزائر... فندق لم يكن يبتعد عنه كثيرا ربما باستثناء تفسحه من حين لآخر بحديقة التجارب بالحامة، مما حال دون احتكاكه بالأهالي وثقافتهم رغم نزعته العًمَّالية المدافعة عن البروليتاريا المستضعفة في العالم.
مدينة الأحلام الشرقية
فكَّرتْ إدارة الاحتلال، أمام الإقبال الكبير للإنجليزعلى مدينة الجزائر، منذ 1908م في إقامة كازينو كبير لاستيعاب أموال هؤلاء الأثرياء وفي تحويل القصور التي تعود إلى العهد العثماني إلى إقامات سياحية. وإذا كان المشروع الأول لم يتجسد إلا في سنة 1933م بإنجاز فندق أليتي (أيْ فندق السفير حاليا)، فإن الفكرة الثانية سوف تتطور حتى إلى بناء فيلات وقصور جديدة حسب النموذج المعماري القصبجي أو الموريسكي، كما يقال، بتشجيع من الحاكم العام جونار المحب للاستشراق. وقد برع في هذا النمط المعماري الذي تحول إلى موضة جديدة في العشريات الثلاثة الأولى من القرن 20م الإنجليزي بوكنال (Bucknal) المهندس المعماري الذي جاء الجزائر في 1875م وترك بعاصمتها حيا بأكمله من إنجازه يُعرف بـ: درب بوكنال بالأبيار، بالإضافة إلى الكنيسة الأنجليكانية السابقة الذكر بمفترق طرق أديس أبابا التي أنجزها في سنة 1909م.
تهافت الأثرياء والنبلاء الإنجليز على القصور "التركية" المحيطة بالمدينة وافتتنوا بجمال تصورها المعماري وببساتينها وجنانها وروائح الياسمين المنبعثة منها، وتنفسوا بها طيلة سنين طويلة الجمال الشرقي العربي- الإسلامي الذي لم تتوفر لهم فرصة اكتشافه من قبل بسبب الصراعات التاريخية المعروفة بين الشرق والغرب وبين ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
لقد سكنت هذه النخبة الإنجليزية بأغلب القصور و"الجنانات" العثمانية الواقعة بـ: "فَحْص" قصبة الجزائر العتيقة، واشترت 35 منها في نواحي الأبيار، تيليملي و الأحياء المحاذية لقصر الشعب الحالي ونزل الجزائر المعروفة آنذاك بحي مصطفى الموروث عن جنان الداي مصطفى باشا.
ففي نهاية القرن 19م اشترى جون بيل قصر مصطفى رايس ورممه بواسطة المهندس المعماري الفرنسي غِيُوشَانْ (Guillauchin) الذي كتب آنذاك في أحد مؤلفاته بأن شعاب وروابي الأبيار وحيّ مصطفى لم تحتفظ حتى الآن ببعض الديار والقصور الموريسكية والخضرة (المحيطة بها) إلا بفضل عدد من عناصرالجالية الأجنبية، والإنجليزية بصفة خاصة...
الملك إدوارد السابع يفتتن بـ: "جنان المفتي"
أما اللورد والليدي آرثور فقد وقع اختيارهما على فيلا "جنان المفتي" قرب مؤسسة التلفزيون بشارع الشهداء، والتي مازالت موجودة حتى الآن، أين استقبَلا في سنة 1905م الملك البريطاني إدوارد السابع وزوجته الملكة ألكسندرا.
كما سكن بالقصر المعروف بـ:"دار الأعور" أو"دار لوعر؟" اللورد هولدن (Holden) و زوجته، اللذان كانا يجاوران الإقامة الفخمة للِّيْدي هارتويل (Hartwell) الأسكتلندية.
في نفس الفترة، أقام الِمْيجُورْ بْلومْفيلْدْ (Major Bloomfield) بقصر "جنان السوداء"، والثري الأمريكي ماكْ لِي (Mac Lay) بالحي الذي مايزال يُعرف باسمه حتى اليوم بالأبيار (شُومَانْ مَاكْ لِيْ)، وعائلة لوفيت- هين (Lovett- Henn) بـ: "جنان سيدي مرزوق" بالأبيار أيضا حتى وفاتهما هناك...
لم تنس هذه الجالية الإنجليزية النخبوية، التي تجمعت في مدينة الجزائر و ضواحيها ما بين نهاية القرن 19م والعشريات الأولى من القرن 20م، أن تجعل لنفسها أحياء ومحلات راقية تليق بمقامها وثرائها في أفخم شوارع المدينة الأوربية. فقد كانت تقضي حاجياتها في محلات Vitalli-Franses وLawson et Lefebure و Pohoomull Brothers بشارعي باب عزون والعربي بن المهيدي ، وكانت تستريح من تعب التجوال في المدينة حول طاولات شاي محل Fille الشهير في ذلك الوقت بخدماته ذات المستوى الراقي والـ: Afternon Tea (شاي العشية)، ولعبت التنس ومارَسَتْ ركوب الخيل بضواحي بئر الخادم وبئر مراد رايس. كما قرأت جريدة الجالية الوحيدة The Algerian Advertiser التي أصدرها الإنجليزي Joseph H. Hyam في سنة 1885 م ما بين 1 نوفمبر/تشرين الثاني و نهاية أبريل/نيسان الذي تلاه.
"نيس" شمال إفريقيا
أصبحت مدينة الجزائر منذ نهاية القرن 19م بفضل هذه الأجواء السياحية مدينة جد منافسة لمدينة نِيسْ و كَـاْن الفرنسيتيْن، بحيث حَوَّلَتْ وجهة الإنجليز والأمريكيين نحو الضفة الجنوبية للبحر المتوسط ليكتشفوا لأول مرة إرث قرون من التراكم الحضاري العربي- الإسلامي بهذه البقعة، وسوف تستقطب بالتالي موضة قضاء الشتاء بمدينة الجزائر أوالإقامة الدائمة بها الأدباء والفنانين من مختلف بلدان العالم مثل الموسيقار السيمفوني العالمي يهوذا مينوحين الذي توفي في سنة 1999م ، جاك تيبو، سامسون فرانكوس وغيرهم. كما أتاها مفتونا في ثلاثينات وأربعينات القرن 19م الرسام أوجين دو لاكروا وأوجين فرومونتان مجنون "زنقة سيدي امحمد الشريف" و القصبة العليا.
لكن ما إن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى كانت أمور كثيرة قد تغيرت في الجزائر وفي العالم، أمور دفعت إلى الهجرة المعاكسة، وبالتالي لم يبق آنذاك بمدينة الأولياء والشعراء وريَّاس البحر سوى 250 فردا فقط من إنجليز بداية القرن 20م...
آنذاك كانت الجزائر تستعد لموعد آخر مع التاريخ ، موعد وضع حدٍّ للاحتلال والاستغلال وإقناع الفرنسيين بالعودة من حيث أتوا...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق