العرب صابر بليدي
قصر أحمد باي، معلم
تراثي عريق وتحفة معمارية تتزيّن بها قسنطينة، مدينة “الصخر العتيق” احتفاء بها عاصمة
للثقافة العربية لعام 2015 يختزن القصر بداخله مسيرة حافلة بالأحداث، ليروي حكايات
بعض الأسرار الدفينة لحاكمه وجواريه لأجيال، لم تخطر بأذهانها قصّة القصر الفريد.
تعتبر جدارية قصر
الباي أوّل عربون يستقبل به قصر أحمد باي زواره، فعلى امتداد 2000 متر مربع، تزيّن
الجدارية المتعددة الزخارف قصر بايلك الشرق، أي حاكم إقليم الشرق، وفق التقسيم الإداري
العثماني، وهي بمثابة وثيقة مرجعية أصلية، تتناول الرحلة الطويلة لصاحب المكان.
تقول شادية خلف الله،
مديرة المتحف الوطني العمومي للفنون والتعابير الشعبية، إن هذه الجدارية “لم تبح بعد
بجميع أسرارها بالتأريخ وبقراءة مختلف الأحداث التاريخية التي عايشها أحمد باي، مثل
تلك المعارك التي شارك فيها، إلى جانب داي الجزائر العاصمة، ومختلف رحلاته إلى الشرق
الأوسط”.
ويمكن للمتمعّن في
الجدارية المدهشة، التي تتحدث عن رحلة قام بها أحمد باي للوصول إلى البقاع المقدسة،
أن يمتّع نظره بجمال تونس وحلق الوادي وطرابلس، وميناء الإسكندرية حيث ترسو الفرقاطات
والقاهرة بمساجدها.
يذكر أنّ الجدارية
تعرّضت للتشويه من إدارة الاحتلال الفرنسي للجزائر، التي وضعت عليها ست طبقات أخرى،
مشوّهة بذلك أصالة الطبقة الأولى، في محاولة منها لطمس معالم هذه التحفة المعمارية،
التي تنطوي على براعة الهندسة المعمارية الشرقية، ورغم ذلك تبقى الجدارية صامدة بإثبات
حضورها على جميع الجدران الداخلية للقصر، مثل ألبوم الصور التاريخية.
وتذكر خلف الله،
خلال شرحها للجدارية المتعددة الزخارف، بأن أحمد باي شرع في رحلته التي دامت 15 شهرا
في 1818، بينما كان مجرد خليفة منطقة، وهو ما يعني سبع سنوات قبل تعيينه على رأس بايلك.
وتضيف “انطلقت رحلته
من أمام جسر سيدي راشد الحالي الواضح في الجدارية، ليلتحق بحلق الوادي ومدينة رادس
الساحلية بتونس ثم طرابلس، ليمرّ بعدها على جزيرة جبل حسان بالمملكة العربية السعودية”.
وتبرز الرسوم التوضيحية
لهذه التحفة الفنية 44 علما وراية، و3 مساجد و78 نوعا من الأشجار و36 سفينة شراعية
و66 فرقاطة، وعديد المنازل ومختلف أنواع المباني البسيطة أو ذات القباب، و69 مئذنة
و55 قبة و134 شجرة نخيل وعدة عبارات مكتوبة، 23 منها فقط سهلة القراءة و4 أنواع من
الطيور و7 طواحين مائية وهوائية و4 قصور.
ويمكن تمييز البقاع
المقدسة بالمدينة ومكة، إضافة إلى مدن جدة والإسكندرية وإسطنبول، المعروفة بالجامع
الأزرق ذي المآذن الست، والإسماعيلية وجزيرة خالكي وجزيرة كانديا ببحر إيجا.
وتقول الروايات إنّ
فكرة بناء قصر الباي، تعود إلى تأثر أحمد باي أثناء زيارته للبقاع المقدسة بفنّ العمارة
الإسلامية، فأراد أن يترجم افتتانه بهذا الفن ببناء قصر في قسنطينة، الذي انطلقت الأشغال
الفعلية لبنائه العام 1827 ليكتمل تشييده العام 1835. وهو ما يعني أنّ إقامة أحمد باي
بالقصر لم تستمر سوى سنتين قبل سقوط قسنطينة بيد الاحتلال الفرنسي عام 1837.
ويمتد القصر على
مساحة إجمالية تقدر بحوالي 5600 متر مربع، ويتميز باتساعه ودقة توزيع أجنحته المتساوية
في الشكل والمضمون.
ويمكن لزائري القصر
الاستمتاع بالنقوش والزخرفة الضاربة في العمق الحضاري للمنطقة، حيث يشتمل طابقه الأرضي
على حدائق عدة وفناءات رحبة، كما يحتوي على 121 غرفة و500 باب ونافذة مصنوعة من خشب
الأرز المنقوش بمهارة، والمطلي بالألوان الفاتحة الحمراء والخضراء والصفراء، علاوة
على 30 رواقا، تكمن مهمتها في تسهيل مرور التيار الهوائي عبر مختلف أرجاء القصر، وحوالي
250 عمودا من الرخام الأصلي.
يحيط بالقصر خمسة
أقواس تقابلها حدائق مفتوحة على مصراعيها لاحتضان الطبيعة، فيما يتوسّطه حوض كبير،
يقال إن نساء أحمد باي وجواريه كنّ يستجممن فيه بالمياه الباردة المتدفقة من أعلى القصر،
والتي كانت في الغالب تتشكل كشلالات تمتد مياهها إلى أسفل القصر حيث تربّى الأسماك.
أما الطابق العلوي
من القصر فيؤدي إلى فناء كبير، هو الآخر مزيّن بأروقة ذات أقواس وشقق شبيه بالطابق
السفلي، حيث تقول بعض المخطوطات إن أحمد باي أصرّ على أن تكون غرف القصر متشابهة، وربّما
ما يميّز الطابق الثاني هو غرفة فاطمة ابنة أحمد باي، التي تبدو بأنها مختلفة عن باقي
الغرف، إضافة إلى غرف رحبة، بجوارها حمام ذو هندسة مغاربية كان مخصصا للباي ونسائه.
وقد روّج عن أحمد
باي، في عدد من وثائق المستشرقين، أنّ قصره كان يعجّ بالجواري، ويحتضن تحديدا 385 جارية،
تقمن في عشرات غرف القصر وأجنحته الفسيحة. وتقول بعض الروايات إنّ الحاج أحمد باي لئن
كان محبّا لجمال المعمار فإنّه كان كذلك مهووسا بالنساء الجميلات، ممّا جعله يستكثر
الجواري في قصره، إلى جانب نسائه الأربع. ويفسّر بعض الرواة كثرة غرف القصر وتشابهها
بأنّ الحاكم كان لا يهوى الاستقرار الدائم في أحد أجنحته، بل يفضّل التجوال بينها كلّ
ليلة، والمرور على جواريه، كي لا يعتريه الملل. وتقول بعض المصادر إنّه بعد إخراج الباي
من قصره عند سقوط قسنطينة على يد الاحتلال الفرنسي، تحوّل هذا العدد الهائل من الجواري
إلى الإقامة في بيت دعارة، في “باب الجابية بالسويقة” أقامه الفرنسيون للغرض، تماما
مثلما فعلوا في كلّ المدن الكبرى التي احتلوها في المنطقة.
ومع ذلك فقد شكّك
الباحث الجزائري، احميدة عميراوي، في صحّة هذه المعطيات، معتبرا أنها مبالغة مغرضة
ومغالطة تاريخية لتشويه أحمد الباي، نظرا إلى عدم وجود أسانيد تؤكّد ذلك سوى وثائق
قليلة خلّفها بعض الضباط الفرنسيين مثل شارل فيرو.
يذكر أنّ أحمد باي
كان قد عيّن حاكما على بايلك الشرق العام 1826، فشهدت قسنطينة في عهده استقرارا كبيرا
إلى غاية العام 1837، تاريخ سقوطها على يد الفرنسيين، بعد معركتين ضاريتين خاضهما الحاج
أحمد باي، أي بعد نحو سبع سنوات من احتلال الجزائر. ونظرا لبهاء القصر، اتخذه قائد
الجيش الفرنسي، الجنرال بيرتراند كلوزيل، مقرّا له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق