بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 22 يناير 2015

تحية لحمير القصبة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!



يتشرف الحمار دون غيره من الكثير من الحيوانات بورود اسمه في القرآن الكريم وبخدمته للإنسان بوفاء وإخلاص منذ فجر التاريخ... مدينة الجزائر، التي أقْصَتْهُ من الاحتفالات بألْفِيَتِهَا عام 1998م، سهر قرونا طويلة ومازال ساهرا على نظافتها، وأنقذ ثقافتها من لهيب الحروب، كما ساهم في إفشال أحد أكبر انقلاباتها السياسية
دخل حمير القصبة التاريخ من بابه الواسع بحضورهم في مؤلفات ومذكرات الرحالة والجغرافيين المسلمين والأوربيين الذين وقعوا دون شك في زحمتهم في الزقاق والمسالك الضيقة في عْقيبة الشِّيطَانْ وسَبَاطْ العْرُوسْ وزَنْقَةْ سيدي مْحمَّد الشّْرِيفْ...
الإسباني هاييدو، الفرنسي فونتور دو بارادي، البريطاني الدكتور شو والأمريكي جيمس كاثكارت وغيرهم، فوجئوا بالدور المركزي للحِمار في العناية بنظافة المدينة وصحتها في كتبهم التي أصبحت مراجع أساسية لتاريخ مدينة سيدي عبد الرحمن في العهد العثماني.
وإن أجحفنا في حقهم اليوم، فقد كتبتْ عنهم كلماتٍ رقيقةً ولطيفة متعاطفة الفرنسيةُ لوسيان فَافْرْ (Lucienne Favre) في "كل ما يُجْهَل عن قصبة الجزائر" في الخمسينيات الماضية. كتبتْ عن حمير ليسوا ككل الحمير... عن حمير يؤرقهم سؤال فلسفي وجودي كلما فاجأتْهم وصدمتْهم سلوكات بعض البشر: "مَن هُم الحمير؟"...
لوسيان فافر تحدثتْ عن: "حمير ينقلون الفضلات وفي عيونهم رِقَّة وأَلَم بَشَرِي (…)، يَسكن بعضُهم القصبة وينامون في أقبية لا ضوءَ فيها ولا هواء بِرفقة أصحابهم من البشر".
في هذا الماضي القريب، استفاد الحمير من فترة استراحة، بحيث حُوِّلوا إلى نقل مواد البناء بصفة خاصة بعد أن ابتدع الاحتلال نظام تنظيف للمدينة العتيقة يعتمد على رش أزقتها بأطنان من مياه البحر بواسطة "السِّيَاقين". لكن بعد زوال هذا التقليد الموروث عن عهد جاك شوفاليي، عادت حليمة إلى أشغالها الشاقة القديمة منذ أواسط السبعينيات. وقد استنفذت هذه المهمة الصعبة والمضنية طاقة هذه الحيوانات العظيمة حتى قضت على عدد منها خلال السنوات، بل العقود، الأخيرة، لاسيَّما أن البشر لم يُسَهِّلوا لهم المهمة.
أقل من 40 حمار لتنظيف القصبة؟
أندري ريموند (Andre Raymand) صاحب "المدن العربية الكبرى في الفترة العثمانية" وأحد أكبر المختصين والخبراء في المدينة الإسلامية، أكرم الحمير بصفحة ونصف من كتابه التحفة سنة 1985م اعترافا لهم بدورهم الأساسي في تنظيف ليس مدينة الجزائر فحسب، بل حتى تونس والقاهرة وحلب والقدس ودمشق...
واليوم، كل ما بقي من هذا "السَّلف الصالح" لآل الحمار بقصبة الجزائر يُمكن اختصاره في اصطبل يقع أسفل مقبرة القَطَّارْ بوادي قريش، قبالة حيّ مناخ فرنسا (Climat De France)، يحتوي على أقل من 40 حمارا، عدد منهم عاطل بانتظام عن العمل بسبب الأمراض وأعراض الشيخوخة...، مما حوَّل هذا الإصطبل جزئيا إلى مركزٍ للخدمات الاجتماعية الحَمِيرية.
يؤكد أحد قدماء هذا الإصطبل التابع لإدارة مدينة الجزائر أن هذه الحظيرة ضَمَّتْ أثناء العهد الاستعماري 70 إلى 80 حمارا عاشوا حياةً أسعد من حياتهم الحالية، وتمتعوا بظروف عمل أقل قساوة من ظروف اليوم وأفضل بكثير من نظيراتها في عهد الجزائر المستقلة. ظروفٌ روعيتْ فيها مختلف الإجراءات الوقائية الصحية بفضل طبيب بيطري كانت تربطه بهم علاقات حميمة قوية جعلته يسهر على راحتهم وصحتهم كما يفعل مع أطفاله
عمي محمد، أحد قدماء منظفي القصبة المتقاعدين، أكد بعد اشتغاله مع الحمير طيلة 38 سنة، دون أن يتأثَّر على ذكاؤه وأسلوب تفكيره كما قد يعتقد بعض سيِّئي النوايا، بأن هذه الحيوانات الطيبة كان لها الحق في "الدُّوشْ"، الاستحمام، بانتظام وفي غسل المعدة من طرف البيطري في حالة الإصابة بآلام في البطن، وفي التطعيم بمختلف الحقن الضرورية للصحة، وفي أنواع أخرى من الأدوية، وفي تطهير الأظافر وتقليمها، وحتى في المشط "بالقَرْدَاشْ" الخاص بها، دون ذِكْر الاعتناء الخاص بالمأكل والمشرب.
كان يحدث ذلك في عهد المُستوْطِن، الإيطالي الأصل، برلسكوني (Berlusconi) الذي اشتهر في الخمسينيات برِفْقِه بالحمير وبقساوته على البشر الأنديجان الذين كان يُسَيِّرهم بقبضة من حديد حاملا معه في جيبه مسدسا للتخويف والترويع وحتى للاستخدام عند الضرورة… ولا عجب في ذلك فالبلد كان تحت نير الاحتلال...
جامعة "كْلِيمَا دُو فْرَانْسْ" !
والوحيد الذي تمسَّك بهذا الاحترام الكبير للحمير بعد الاستقلال وحافظ على التقاليد "الاستعمارية" في هذا المجال هو "كِيكِي" الذي تقاعد في الثمانينيات من القرن الماضي ويكون قد توفي، حسب بعض زملائه، منذ بضعة أعوام. وكانت وفاة "كيكي" خسارة كبيرة لِحمير القصبة سرعان ما انعكست على عددهم الذي تناقص متسارعا بسبب الوفيات الناتجة عن الأمراض وكِبر السِّن، ثم عدم تجديد السلطات المحلية لحضيرتها من هذا الحيوان.
حسب قدماء الإسطبل الذي يحلو للبعض تسميته "جامعة كليما دو فرانس" (Université de Climat de France) أو "أوتيل الحمير" (Hotel)، لم يشتر المسؤولون المحليون في ظرف الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة، على الأقل، أكثر من 10 أحمرة، وجُلُّهم من جيل الاستقلال "لا يصلحون لا للدّف ولا للقمْبْرِي" بسبب الكسل و"التَّفْيَاسْ" كالبشر من جهة، ولِضعفهم الجسدي وقِصر قامتهم، مما يقلص من قدرتهم على تحمل الأثقال ويعرقل عملية السَّير بها، لأنها تصطدم عادة بالأرض وبـ: "الدّْروج"...
من جهة أخرى، هؤلاء الحمير ليسوا من "أولاد البلاد" بل قدموا من الأرياف، ويتطلب تَعَوّدهم على السير في المدينة وتحكّمهم في عملهم بحفظ مسار العمل ونقاط التوقف وقتا طويلا وجهودا كبيرة من طرف عمال النظافة المدعمين بالعصي الغليظة.
لذلك حمير القصبة الجدد، يقال إن أغلبهم غير مؤهلين لوظيفة النظافة بالقصبة ومن الأفضل أن يُعادوا إلى أريافهم، عكس أجدادهم الذين شاركوا مشاركة حاسمة في صنع تاريخها.
الحمير ينقذون الدَّايْ...
في سنة 1816م عندما أطاح الجيش الإنكشاري بالداي عمر باشا وأتى بعلي خوجة مكانه، سارع هذا الأخير بعد فترة قصيرة إلى نقل مقره الرسمي من قصر الجنينة بساحة الشهداء إلى القلعة الحصينة بالباب الجديد كوقاية من الحركة السياسية المعادية له داخل الجيش الذي كان يتأبَّط شرًّا، لأن بعض قياداته كانت تحضر انقلابا جديدا.
لكن هل كانتْ هذه المناورة ممكنة دون حمير المدينة الذين كانوا عند حُسْن الظن...؟
أثناء انتقاله من أسفل إلى أعلى القصبة، فهم الداي علي خوجة أن الاستغناء عن خدمات الحِمار مستحيل. بل يقال إنه اعتمد على 400 حمار وبغل لنقل متاعه وأمواله ليلا وبطريقة سرية من غروب الشمس حتى طلوع الفجر بعد أن فرض حظر التجول في كامل أنحاء "بهجة" سيدي عبد الرحمن. ثم بعد نجاحه في إفشال محاولة الانقلاب، واصل نقل ما تبقى من قصر الجنينة من أموال وكنوز "الخَزْنَة القْدِيمَة" إلى "الخَزْنَة الجْدِيدَة" بالقَلْعَة، المعروفة اليوم بـ: "دار السلطان"، طيلة 36 ليلة على ظهر 300 حمار وبغل كل ليلة. ولو لم يُهَرِّب الدَّاي علي معه أمواله بهذه السرعة لما نجح في البقاء على العرش، لأن السلطة لمن يملك الكنوز لشراء القوة والذَّمَم...
في الحقيقة، لا يكاد يوجد شيء أو حدثٌ في قصبة الجزائر دون أن يكون للحمير فضلٌ عليه، لأنهم نقلوا مواد البناء لتعميرها ونظفوا زَبلها ونقلوا مياهَها وطحنوا قمحها وشعيرها وحملوا بين الدِّيار والأضرحة والمقابر والأسواق أطفالها ونساءها ورجالها...
فهم الذين نقلوا أحجار أطلال مدينة تامنفوست الرومانية ومحجرة باب الوادي لبناء مرسى المدينة، وهم الذين أوْصَلوا المؤن والمعدات مِن وإلى السُّفن الراسية في "بَابْ دْزِيرَة"، أو باب الجزيرة، في مَساعٍ وخدمات لوجستيية إستراتيجية خفَّفتْ أتعابَ بَحَّارة الرَّايس علي بِتْشِّينْ، ومُراد رايَسْ والرَّايَسْ حَمِّيدُو والعلج علي...
وعندما كان فرانسوا دوكان (Francois Duquesnes) يقصف الجزائر باسم ملك فرنسا العام 1683م مُتسببًا في تحطيم ثُلثي المدينة وحرقها، سارع الحَميرُ إلى انقاذ عدد هام من الكُتب والمخطوطات التي كانت موجودة بالجامع الكبير، المُطلَ على الميناء والواقع في مرمى قذائف الأسطول الفرنسي، من لهيب الحرب بمساعدة الجِمال، وهَرَّبُوها إلى حِصن الإمبراطور بالتاغاران (Tagarins) بعيدا عن دائرة الخطر إلى حين عودة الأمن والأمان، لأن عَظمة المُدن بعظمةِ كُتبها وعلمائها .

في نهاية المطاف، لقد كان حميرُنا، وأنا أقصد الحيوانات، أكثرَ من حَميرٍ، لأن الحِمار الذي يُخاطر تحت القصف بحياته وبرزق أبنائه وحَريمه، وربَّما حتى جَواريه، من أجل أن تعيش الكُتب جديرٌ بأن نقول إكرامًا له إن "وراء كلِّ عظيم حمار"...!!َ! بل إن عظمة المدن بعظمة حميرها...حاشاكم!!!

بقلم الدكتور فوزي سعد الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق