بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 13 ديسمبر 2015

قصر “أحمد باي” العثماني بالجزائر … هوية دولة وتاريخ شعب




لا يزال قصر الحاج أحمد باي بقسنطينة ( 430 كلم شرق الجزائر العاصمة) شاهدًا على إنجازات الدولة العثمانية وبطولات الباي أحمد (1786-1850) الذي شيّد القصر بطريقة جعلت منه إعجازًا عمرانيًا، يحمل بين جدرانه هوية دولة و تاريخ شعب.
هذا الصرح العمراني المتميز يقع بقلب المدينة القديمة بقسنطينة، في حي القصبة العتيق، يمتد على مساحة تقدر بـ 5600 متر مربع، ويعود تاريخ بنائه إلى الفترة  بين (1825 و1835)، ويعود الفضل في تشييده لآخر البايات العثمانيين، الذين حكموا الجزائر، ويتعلق الأمر بالباي أحمد بن محمد الشريف بن أحمد القلي، الذي حكم بايلك (منطقة) الشرق لمدة 16 سنة، وهو من والد تركي وأم جزائرية تدعى الحاجة الشريفة وهي من عائلة عريقة تسمى عائلة بن قانة.
وحسب المشرفة العامة على القصر، خلف الله شادية، في حديثها للأناضول :”قصر الحاج أحمد باي هو واحد من المعالم الأثرية الفريدة من نوعها، فهو منارة معبأة بعبق التاريخ، الذي يعكس حضارة شعب بأكمله وعظمة و إنجازات رجل (الباي أحمد)، سجل اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ مدينة قسنطينة والجزائر على حد سواء.
و حسب خلف الله، فقد قام ببناء القصر حرفيون وبنّاءون مختصون، وفق تصاميم عمرانية وهندسية متميزة، استلهمها الباي أحمد من رحلاته المختلفة وزيارته لبعض قصور الحكام والملوك، حيث يتكون من حديقة واسعة تتوسطها نافورة مائية، وفيها العديد من الأشجار المثمرة والنباتات الزهرية، وأخرى أقل منها مساحة و27 رواق تم شقها بطريقة متميزة، لتسمح بمرور التيار الهوائي والنسمات المنعشة في فصل الصيف.
ويزيّن الأروقة أكثر من 250 عمودًا من الرخام الفاخر، الذي جلب من عدة دول، إلى جانب مسبح ينقسم لجزئين.
وأضافت خلف الله بأن بناء القصر استغرق 10 سنوات، وكان مقر الحكم ببايلك الشرق، و يتكون من 121 غرفة و45 بابًا و60 نافذة و2300 متر مربع من الأسقف الخشبية، تم صناعتها من خشب شجر الأرز، وعليها نقوش إسلامية مختلفة، تم طلاؤها بالألوان الصفراء والحمراء والخضراء، وهي نفس الألوان التي تم اعتمادها في دهن جميع أسقف القصر وزجاج النوافذ وباحات الاستقبال.
المتجول في القصر يقف أيضًا، عند أحد أجزائه على ما يسمى بـ “دار أم النون ” نسبة إلى والدة أحمد باي التي كانت تقيم في هذا الجزء من القصر، وبه ولد أحمد باي، والذي تحول فيما بعد إلى مكان تستحم فيه نساء وجواري القصر، خلال فصل الصيف، بالمياه الباردة، التي تتدفق من الأعلى.
ويتوسط المكان شبه خزان من المياه كانت تعيش فيه أسماك معظمها من اللون الأحمر، وكانت تحظى بعناية خاصة من قبل نساء القصر، شأنها في ذلك شأن العصافير والبلابل التي كان يحتفظ بها الباي أحمد في غرفة خاصة.
ويوجد في منتصف القصر الجناح الإداري، أو ما يسمى بمجلس الباي، وجناح القضاء وبه محكمتين إحداهما للتقاضي حسب المذهب المالكي وأخرى حسب المذهب الحنفي، وتوجد به 14 نافذة تطل على جميع أجنحة القصر، وفيه الجناح المخصص للنسوة، وتتوسطه نافورة رخامية وغرف الحمام.
كما يتوسط القصر ما يسمى بالجناح الشتوي، على شكل بيت مصغر يسكن فيه الباي وعائلته في فصل الشتاء، أما الطابق الثاني ويسمى “العليّة”، فكان مخصصًا لأفراد الحرس، والطابق تحت الأرضي كان مخصصًا كإسطبل للحيوانات واستخدمه الفرنسيون عند احتلال المدينة كسجن.
وتزين جدران القصر ر سومات على مساحة 2000 متر مربع، وتعتبر مرجعًا تؤرخ لحياة الحاج أحمد باي، و تعكس مختلف التجارب والرحلات التي قام بها على مدار 15 شهرًا (1818/1819) وذلك قبل تعيينه على بايلك الشرق، ورافق في بعضها داي الجزائر العاصمة، وقادتهما إلى دول الشرق الأوسط، مرورًا بتونس وطرابلس الليبية وميناء الإسكندرية، الذي رست به الفرقاطة التي كان على متنها الباي وداي الجزائر، وصولاً إلى مساجد القاهرة واسطنبول المعروفة بالجامع الأزرق ذي المآذن الستة ( السلطان أحمد)، والحجاز ومكة المكرمة، إلى جانب المعارك التي شارك فيها الباي أحمد، ومختلف إنجازاته بمدينة قسنطينة والجزائر.
وحسب مديرة القصر فإن الرسومات تحمل صورًا لـ 36 سفينة شراعية، و 66 فرقاطة، و78 نوعًا من الأشجار، إضافة لـ 134 شجرة نخيل، والمئات من المباني، و 69 مئذنة، و55 قبة، وعدد هائل من العبارات والجمل، 23 منها فقط يمكن قراءتها، وصورًا لـ 4 قصور، و7 طواحن هوائية، وأنواع مختلفة من الطيور إلى جانب عدد هائل من الأشكال الهندسية الإسلامية والشرقية.
واستطردت خلف الله :”هذه الرسومات تم طمس بعض معالمها من قبل الاستعمار الفرنسي، بعد احتلاله لقسنطينة عام 1837، حيث قام بوضع خمس طبقات عليها كما أدخل بعض التعديلات، غير أن القصر بقي محافظًا على معالمه، خاصة بعد عمليات ترميمه لاحقًا، وكان لها دور كبير في الحفاظ على معالم القصر كما كانت في زمن أحمد باي.

هذا ويعد القصر حاليا مزارًا ومعلمًا سياحيًا وثقافيًا، يؤمه يوميًا كثير من السياح للوقوف على معالمه، وذلك بعد أن كان مغلقًا بسبب أعمال الترميم، وإعادة تأهيله، كما أصبح يحتضن تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والفنية كحفلات المالوف (نوع غنائي تشتهر به مدينة قسنطينة)، والمعارض الفنية، وتلك التي تختص بالصناعات التقليدية.

هناك تعليق واحد: